في أول محاضرة مع المشرف. في المادة التي اشترطوا افتتاح الدراسة بها. وجدت نفسي في وضع مثير. لا فرق بيني وبين الكرسي الذي أجلس عليه. إن فهم الكرسي شيئا فقد فهمت. إن فهمت جدران الصّالة فقد فهمت. ساعة كاملة لم أفهم ماذا يقول. لم أستطع تسجيل أي ملاحظة. كل من حولي يكتب. أيقنت بورطة لا أعرف لها حلا.
تلكم حقيقة عشتها برعب وتساؤلات مخيفة. معاناتي تضاعفت. بدأت استعين بالأماني والأحلام. تمنيت قطع العلاقات السعودية الأمريكية. ذلك سيكون السبب الوحيد أمامي لقطع بعثتي ورجوعي. الحل الوحيد لإنقاذ نفسي من لطمة: (ما حِجِيْ بها). حسب لهجة ربعي التي أعرف. مصطلح ينتقص من شأن الفرد في حال الفشل. كنتيجة يحفز هذا المصطلح على الإقدام وعدم الاستسلام.
استدعيت كل الشخصيات العظيمة التي قدمها أستاذي (عثمان) في صغري. بدأت أبحث عن وميض ينبعث من ركام المعلومات. شعرت أن استاذي بجانبي يدفع ويحث ويحفز. تذكرت نظراته الحادة الجادة. تذكرت دقته وحزمه وانضباطه. كان الفصل في وجوده أشبه بكتيبة عسكرية. هل يعقل أن يكون هذا المشرف هو عثمان الثاني؟!
تساءلت لماذا الإصرار على العناد؟! لماذا ربطت مصيري بشروط مجحفة؟! تذكرت مثل القرية الشهير: «كايديني وشققي ملابسك». سمعته صغيرا لتجنب العناد ونتائجه الوخيمة. العناد في غير موضعه نقمة. هل هذه طريقي التي اخترتها لنفسي؟!
بدأ عنوان الفشل يكبر حجما. بدأ عنوان النجاح يتقلص مساحة. بعد المحاضرة مباشرة، وقبل أن يصل المشرف مكتبه، وجدني واقفا بجانب الباب. دخل المكتب. دخلت خلفه دون استئذان. قال: ما الأمر. أجبت: لم أفهم شيئا. نظر اليّ نظرة لم أعرف لها قراءة وتفسيرا. قال بتهكم: هل تريد مني إعادة المحاضرة؟! أضاف بنبرة صوت حازمة: هل لديك سؤال محدد؟! ساد الصمت. انسحبت دون أن أتفوه بكلمة واحدة.
تساءلت أي غلظة يعاملني بها. أي اختيار هذا الذي وضعوني فيه؟! أي حالة اخترت لنفسي؟! هذه أصعب مادة في القسم. وضّحوا ذلك منذ البداية. قبلت بهذه البداية القاهرة. انقلبت على نفسي أتساءل. هل كنت في كامل قواي العقلية عندما وافقت على شروطهم التعجيزية؟! هل ارتكبت أكبر غلطة في حياتي؟!
بدأت أرى الفشل أمامي كالمارد ليس له حدود. بملامح واضحة. فشل يلف أطنابه حولي. أصبحت أنظر لنفسي بنوع من اللوم. أحيانا استفيق لأقول لنفسي: من يضع نفسه في مواضع التحدّي عليه المواجهة. الاستسلام مذلة. تشبعت بمثل هذه الشعارات من أستاذي (عثمان الشاعر) في المرحلة المتوسطة. تذكرته للحفاظ على تألق علو همّتي. كنت أدير نفسي.
من عملي مديرا لمحطة التدريب والأبحاث الزراعية والبيطرية بجامعة الملك فيصل. تعلمت أن أتوقع كل الاحتمالات. هذا يساعد على تلافي الصدمة. لكن ماذا أفعل أمام عجز لغوي كاسر؟! كنت وضعت احتمال فشل تحقيق شروطهم التعجيزية. كنتيجة استمررت في البحث عن قبول بجامعة أخرى.
الصدمة التي طفت كانت حول اللغة. لم أتوقع أن تكون بكل هذا الثقل. وتساءلت: إذا كنت عاجزا عن فهم ما يقول هذا المشرف في المحاضرة، فكيف أفهم في محاضرة بجامعة أخرى. توصلت أن المشكلة تكمن في اللغة. رغم صحة هذا الاستنتاج وحقيقته، واصلت البحث عن جامعة جديدة. كنت أعلم أن الهروب سيكون من فشل الى فشل آخر. الأمر الذي زاد من تعقيد الموضوع أمامي.
هناك توقعات شخصية تأتي مع بداية أي عمل. عليك توظيف أبعادها. لم أتوقع كل هذه الشدة والقسوة في عدم فهمي لما يقول هذا المشرف في هذه المادة. حتى النّجاح في هذه المادة غير كافٍ. الطامة الأكبر أن هذه المادة كانت أساس إنجاز الشرط الأهم. تقديم مشروع رسالتي للماجستير خلال نفس الفصل الدراسي. إذا كنت لا أفهم المحاضرة فكيف لي إنجاز مشروع رسالة الماجستير؟! سؤال فرض همّ البحث عن إجابة.
بدأت شمس الحقيقة تكوي النفس وتهز الثقة. فكان أن رجعت إلى رصيد تجربتي الإدارية في محطة الأبحاث، رغم قصر وقتها التي لا تتجاوز السنتين. رسمت لنفسي خطة استنفار على ضوء إمكانياتي المتاحة. الهدف إنقاذ ما يمكن إنقاذه. بداية تساءلت ما رأس مالي كطالب؟! بدأت أبحث في رصيد قراءتي التراكمية. القراءة نبتة زرعها استاذي عثمان من المرحلة المتوسطة. العثور على رأس المال الذي أملك هو المُنقذ الوحيد من الموقف. ويستمر الحديث بعنوان آخر.