تتمثل اهمية مرفق القضاء في منح حق التقاضي لكل الافراد، الذي يعد وسيلة للبت في خصومة قائمة بين الاطراف. ويتبع هذا الحق تسهيل اجراءات التقاضي ضمن ما حددته الانظمة التي تكفل معالجة الوقائع التي نشأ منها الخلاف بين اطراف الخصومة. والاصل ان لكل طرف سواء كان كاملا او قاصر الاهلية مصلحة مشروعة لجلب نفع او دفع ضرر، ولذلك فهو بحاجة الى جهة تحكم بالمسألة التي يدعي بها تحقيقا للغاية التي ينشدها وهي الحماية القضائية، التي تكفل استقرار المعاملات بين الافراد.
إلا ان هذا الاصل قد يرد عليه استثناء يقوم على اسباب توجب تقييد هذا الاصل او تحديد نطاق زمني لتطبيقه مراعاة لمصلحة عامة يتبناها مَنْ يقوم بسن تلك الانظمة والقوانين.
وأحد تلك الاستثناءات هو مبدأ التقادم المسقط، حيث اختلف الفقهاء على طبيعة هذا المبدأ، فمنهم مَنْ اشار الى انه يرد على اصل الحق فيسقط الالتزام به واخرون اشاروا الى انه يرد على وسيلة المطالبة بالحق وهي الدعوى بحيث يمنع مَنْ سماعها دون ان يمس اصل الحق.
والذي يجري التعويل عليه حاليا في التشريعات الاجرائية هو التقادم الاجرائي وليس التقادم الموضوعي، ويقصد بالتقادم الاجرائي مرور الزمن المانع من سماع الدعوى دون البحث في صحة الادعاء بالحق، ويتمثل ذلك في اتخاذ صاحب الحق موقفا سلبيا كعدم المطالبة بالحق مدة معينة من الزمن يترتب عليها عدم سماع الدعوى من صاحب الحق.
وهنالك عدة اعتبارات ادت الى تبني مبدأ التقادم الاجرائي المسقط لسماع الدعوى، ومنها ان مرور الزمن الطويل على عدم مطالبة صاحب الحق يعتبر قرينة على وفاء المدين بذلك الحق لأن الراجح ان صاحب الحق لا يسكت عن المطالبة بحقه لفترة طويلة.
وبالرغم من ان تطبيق مبدأ التقادم الاجرائي المسقط لسماع الدعوى قد يكون قاسيا على صاحب الحق، إلا ان تقييد المبدأ بشروط قد يخفف من اثره على صاحب الحق. فمن الشروط التي تبنتها بعض الدول في تشريعاتها الاجرائية كمصر والكويت والبحرين هو شرط انكار المدعى عليه للحق، حيث لا يتصور تطبيق مبدأ التقادم الاجرائي على مَنْ يقر بوجود الحق؛ لأن الاقرار بالحق يخالف قرينة الوفاء بالالتزام، التي يرتكز عليها مبدأ التقادم الاجرائي، وبالتالي لايمكن الدفع بمرور الزمن المانع من سماع الدعوى مع الاقرار بالحق. وبمجرد اقرار المدعى عليه بوجود الحق يتحمل عبء اثبات الوفاء بذلك الحق وإلا اصبح ملزما بالوفاء به مجددا.
وكذلك نجد تقييدا لمبدأ التقادم الاجرائي في نظام المرافعات امام ديوان المظالم، حيث نصت الفقرة السادسة من المادة الثامنة على عدم سماع دعوى التعويض ضد قرار الجهات الادارية او العقود، التي تكون جهة الادارة طرفا فيها بعد مضي عشر سنوات من تاريخ نشوء الحق. واشترط نظام المرافعات امام ديوان المظالم لعدم سماع الدعوى ان تقوم جهة الادارة بعدم الاقرار بالحق، حيث ان اقرارها بالحق ينتفي معه السبب المانع من سماع الدعوى. كما قيدت الفقرة السادسة من المادة الثامنة لنظام المرافعات امام ديوان المظالم مبدأ التقادم الاجرائي المانع من سماع الدعوى بعدم قبول المحكمة للعذر، الذي يتقدم به صاحب الحق، حيث ان قبول العذر من المحكمة يشير الى وجود قرائن منعت صاحب الحق من المطالبة بحقه ما يدل على تدارك نظام المرافعات امام ديوان المظالم للجانب السلبي لمبدأ التقادم الاجرائي من خلال معالجة بعض الوقائع، التي تخرج عن ارادة صاحب الحق وبالتالي التخفيف من وطأة مبدأ التقادم الاجرائي على اطراف الخصومة. وكذلك نجد تقييدا لمبدأ التقادم الاجرائي في المادة السابعة من نظام مراقبة شركات التمويل، التي تنص على عدم سماع دعوى منازعة التمويل بعد مضي خمس سنوات من تاريخ استحقاق المطالبة او من تاريخ العلم بالواقعة محل النزاع إلا في حالة وجود عذر تقبله لجنة الفصل في المنازعات التمويلية، حيث اشترطت هذه المادة لتطبيق مبدأ التقادم الاجرائي عدم قبول العذر من صاحب الحق ويتطابق نص المادة السابعة من نظام مراقبة شركات التمويل مع نص المادة السابعة لقواعد عمل لجنة المنازعات المصرفية، التي تبنت مبدأ التقادم الاجرائي مع تقييد تطبيقه بعدم قبول العذر المقدم من صاحب الحق. كما نجد تقييدا لمبدأ التقادم الاجرائي في منازعات التأمين، حيث لا تسمع الدعاوى في المنازعات التأمينية بعد مضي خمس سنوات من تاريخ استحقاق المبلغ محل المطالبة ما لم يكن هناك عذر تقبله اللجان.
وكذلك يلاحظ تبني المادة 165 من نظام الشركات لمبدأ التقادم الاجرائي، التي تنص على عدم سماع دعوى المسؤولية بعد مضي خمس سنوات من تاريخ انتهاء السنة المالية التي وقع فيها الفعل الضار، وقيدت ذلك بعدم وجود حالة التزوير او الغش، حيث ان في تلكما الحالتين لا يسري عليهما مبدأ التقادم الاجرائي. وايضا نجد تقييدا لمبدأ التقادم الاجرائي في المادة 210 من نظام الشركات، التي تشير الى عدم سماع الدعوى ضد مصفي الشركة والشركاء بسبب اعمال الشركة بعد مضي خمس سنوات على شهر انتهاء التصفية إلا في حالة التزوير والغش، حيث توسع نظام الشركات في حماية الافراد من مبدأ التقادم الاجرائي اذا تزامن ذلك مع حالات كالغش والتزوير، لأن الافراد الذين قد يكتشفون حالتي التزوير والغش يصبحون في مركز قانوني سلبي مقارنة بالافراد، الذين قبلوا ضمنيا ما قام به المصفي او الشركاء طيلة المدة الزمنية المتاحة لهم لسماع الدعوى.
ونجد ايضا تطبيقا لمبدأ التقادم الاجرائي دون قيود ومنها المادة 222 من نظام العمل، التي تفيد عدم سماع الدعوى العمالية المتعلقة بحق من الحقوق الناشئة من عقد العمل او المنصوص عليها في نظام العمل بعد مضي 12 شهرا من تاريخ انتهاء العلاقة بين العامل وصاحب العمل. وكذلك تبنى نظام الاوراق التجارية مبدأ التقادم الاجرائي المانع من سماع الدعوى لمدد محددة لكل نوع من انواع الورقة التجارية.
وهنالك بعض الوقائع، التي لم يشملها مبدأ التقادم الاجرائي مثل مسألة اهمال صاحب الحق في المطالبة بحقه لمبلغ مالي عن عقد تجاري، فقد جرت العادة على عدم الاحتفاظ بأوراق او مستندات او مخالصة لدى الشركات او المؤسسات بعد مرور فترة زمنية طويلة لاعتبارات تتعلق بعدم جدوى الاحتفاظ بالاوراق طالما لم يستمر التعامل التجاري مع احد الاطراف. وهذا ما تبنته المادة الثامنة من نظام الدفاتر التجارية، التي تنص على انه يجب على التاجر وورثته الاحتفاظ بالدفاتر المنصوص عليها في هذا النظام والمراسلات والمستندات مدة عشر سنوات على الاقل. والذي يدفع البعض الى القول ان نظام الدفاتر التجارية اعتمد ضمنيا مبدأ عدم سماع الدعوى بعد مضي عشر سنوات لضرورة الحفاظ على استقرار التعاملات التجارية، ونقل عبء عدم سماع الدعوى الى صاحب الحق، الذي اهمل المطالبة بحقه طيلة تلك الفترة دون عذر. ولكن هذا التفسير يعتبر غير ملزم للقضاء، وبالتالي لابد من معالجة ذلك بتبني مبدأ التقادم الاجرائي المانع من سماع الدعوى بعد مرور عشر سنوات على تاريخ اخر علاقة تجارية بين صاحب الحق والمدين به، حيث لا يتصور مطالبة الشركات بالابقاء على الدفاتر التجارية مدة عشر سنوات ثم يتم سماع دعوى مرتبطة بتلك الدفاتر التجارية بعد مرور فترة اكثر من المدة المحددة للاحتفاظ بها.
وقد كان لفقهاء الشريعة الاسلامية السبق في تأطير نطاق تطبيق مبدأ التقادم الاجرائي، حيث ذهب الفقه المالكي الى ان الاصل في عدم سماع الدعوى هو انتفاء العذر المانع لسكوت صاحب الحق مدة زمنية طويلة. ولذلك اذا توافر عذر شرعي يمنع صاحب الحق من المطالبة بحقه فإنه لا يتم تطبيق مبدأ التقادم الاجرائي. وذهب في ذلك الاتجاه ابن القيم في كتابه «الطرق الحكمية»، حيث اشترط وجود مانع كخوف او ضرر لقبول سماع الدعوى بعد مرور زمن طويل عليها، وكان ذلك في سياق شرحه لحكم الادعاء بملكية عقار لمَنْ يرى العقار امامه في حيازة غيره لفترة طويلة ويسكت عن المطالبة به.
وقد اشار فقيه الحنابلة منصور البهوتي في كتابه «كشاف القناع» الى عدم سماع الدعوى التي يكذبها الحس، وكذلك جاء في كتاب «القوانين الفقهية» لابن الجزي المالكي انه لا تسمع دعوى ولا بينة ما يقضي العرف بتكذيبها. وهنا يطرأ تساؤل عن امكانية اعتبار مبدأ التقادم الاجرائي من تطبيقات ما تكذبه العادة وينفيها العرف لأن العادة هي عدم سكوت صاحب الحق عن المطالبة بحقه، والعرف التجاري يشير الى عدم الاحتفاظ بالدفاتر التجارية مدة طويلة.
وعند الاطلاع على المادة (101) من نظام المرافعات الشرعية، التي تنص على «يجب ان تكون الوقائع المراد اثباتها اثناء المرافعة المتعلقة بالدعوى منتجة فيها جائزا قبولها» والمادة (101/3) من اللائحة التنفيذية لنظام المرافعات الشرعية، التي تنص على «الوقائع الجائز قبولها هي ممكنة الوقوع فلا تخالف العقل او الحس» يتبين من قراءتها وجود سلطة تقديرية للقاضي لعدم سماع الدعوى حسب ما يراه القاضي لكل حالة وما يرافقها من ملابسات، لأن واقعة عدم مطالبة صاحب الحق بحقه لمدة زمنية طويلة تحتاج الى التأكد من عدم وجود عذر مانع من المطالبة بالحق وتتطلب ايضا تقدير القاضي لعدم مخالفة الوقائع للحس أو العقل.
ان اهمية مبدأ التقادم الاجرائي تكمن في الحفاظ على استقرار المراكز التعاقدية او النظامية وعدم اضطراب المعاملات التجارية، الذي بدوره يوفر الحماية القضائية لحيوية الاقتصاد من المطالبات التي اهملها الافراد او الشركات لفترة طويلة بشكل يخالف العادة والعرف.