لم يتضمن ميثاق جامعة الدول العربية عند إعلان تأسيسها في 22 مارس عام 1945، نصا يحدد مستوى تمثيل الدول الأعضاء في مجلس الجامعة، أعلى سلطة في قمة الهرم التنظيمي لهذه المنظمة الإقليمية، التي أنشئت للارتقاء بالعلاقات بين الدول العربية إلى أقصى مدى ومحاولات حل ما قد يندلع بينها من خلافات. وفي ظل هذا الغياب في تحديد مستوى تمثيل الدول الأعضاء في مجلس الجامعة، تعين الانتظار لأكثر من نصف قرن قبل أن تتمكن الدول الأعضاء من الاتفاق على إجراء تعديل في الميثاق يلزم الدول الأعضاء بعقد اجتماعات دورية على مستوى القمة مرة واحدة على الأقل كل عام.
ففي عام 2000 وافقت الدول الأعضاء في الجامعة على إضافة «ملحق خاص»، نصت مادته الأولى على أن مجلس جامعة الدول العربية «يعقد على المستويات التالية: أ- مستوى ملوك ورؤساء وأمراء الدول العربية أو مَنْ يمثلهم على مستوى القمة ب- مستوى وزراء الخارجية أو مَنْ ينوب عنهم ج- مستوى المندوبون الدائمون». كما نصت مادته الثالثة في الوقت نفسه على أن المجلس «ينعقد على مستوى القمة بصفة منتظمة في دورة عادية مرة في السنة في شهر مارس، وله عند الضرورة أو بروز مستجدات تتصل بسلامة الأمن القومي العربي، عقد دورات غير عادية إذا تقدمت إحدى الدول الأعضاء أو الأمين العام بطلب ذلك ووافق على عقدها ثلثا الدول الأعضاء».
وقد التزمت الدول الأعضاء بهذا النص وانتظمت القمم العربية منذ إقرار هذا التعديل الدستوري عام 2000 وحتى الآن، فيما عدا عام 2011 الذي شهد انطلاق ما أصبح يعرف باسم «ثورات الربيع العربي» وسقطت فيه رؤوس الأنظمة الحاكمة في ثلاث دول عربية هي: تونس ومصر وليبيا.
لا يمكن لأحد أن يجادل في أن الالتزام بدورية انعقاد القمة العربية إنجاز يمكن أن يساعد في تطوير العمل العربي المشترك إذا توافرت الإرادة السياسية اللازمة، لكنه ليس كافيا في حد ذاته لتحقيق هذا الهدف النبيل. لذا فقد ظلت دورية القمم العربية إنجازا هشا ومن ثم لم يكن غريبا أن يتعرض هذا الإنجاز مؤخرا لنكسة كبرى. إذ كان يفترض أن تنعقد القمة العربية الاعتيادية لهذا العام في دولة المغرب وفي موعدها المحدد، أي في مارس 2016. لكن، وقبل اسابيع قليلة من هذا التاريخ، فوجئ العالم العربي باعتذار المغرب عن استضافة القمة، مبررة هذا الموقف الغريب والمفاجئ في بيان صدر عن وزارة الخارجية المغربية جاء فيه: «إن القمة العربية لا يمكن أن تشكل غاية في حد ذاتها، أو أن تتحول إلى مجرد اجتماع مناسباتي، ولا تتوافر في الوقت الراهن ظروف موضوعية لعقد قمة عربية ناجحة، قادرة على اتخاذ قرارات في مستوى ما يقتضيه الوضع، وتستجيب لتطلعات الشعوب العربية. وفي غياب قرارات مهمة ومبادرات ملموسة يمكن عرضها على قادة الدول العربية، ستكون القمة مجرد مناسبة للمصادقة على توصيات عادية، وإلقاء خطب تعطي الانطباع الخاطئ بالوحدة والتضامن بين دول العالم العربي... إن العالم العربي يمر بمرحلة عصيبة، بل إنها ساعة الصدق والحقيقة، التي لا يمكن فيها لقادة الدول العربية الاكتفاء بمجرد القيام، مرة أخرى، بالتشخيص المرير لواقع الانقسامات والخلافات الذي يعيشه العالم العربي، دون تقديم الإجابات الجماعية الحاسمة والحازمة لمواجهة هذا الوضع سواء في العراق أو اليمن أو سوريا، التي تزداد أزماتها تعقيدا بسبب كثرة المناورات والأجندات الإقليمية والدولية، كما لا يمكنهم الوقوف مكتوفي الأيدي أمام المشاكل الاقتصادية والاجتماعية للشعوب العربية، أو الاقتصار على دور المتفرج، الذي لا حول له ولا قوة، على المآسي التي تمس المواطن العربي في صميمه».
كان بيان الخارجية المغربية صادما وصادقا في الوقت نفسه. فهو صادم لأنه عكس استخفافا بدورية القمم العربية، بل وانطوى على رفض صريح للالتزام بها. لكنه صادق لأنه بدا حريصا في الوقت نفسه على ألا يخدع الشعوب العربية وأن يصارحها بحقيقة الأوضاع المأساوية التي تمر بها المنطقة، وهي أوضاع تبدو أكبر من قدرة القمم العربية على التعامل معها بالكفاءة الواجبة. لذا جاء بيان الخارجية المغربية بمثابة جرس انذار يشير إلى أن النظام الإقليمي العربي يترنح وأصبح غير قادر على مواجهة أزماته البنيوية، وبالتالي بات في حاجة ماسة لعملية انقاذ مصحوبة بترميم شامل. ويمكن القول أنه لولا تقدم موريتانيا لاستضافة القمة العربية في دورتها السابعة والعشرين لتعطل انعقاد القمم العربية، ربما لأجل غير مسمى، ولعاد العمل العربي المشترك للدوران حول نفسه من جديد في حلقة مفرغة لا تبدو لها نهاية.
تجدر الإشارة هنا إلى أن غياب نص ملزم في الميثاق ينظم انعقاد القمم العربية بصفة دورية لم يحل دون استشعار الدول الأعضاء بالحاجة لعقد اجتماعات على مستوى القمة، وهو ما تم بالفعل في أكثر من مناسبة. ففي عام 1946 انعقدت في أنشاص، بدعوة من ملك مصر، أول قمة عربية طارئة لبحث تطور الأوضاع في فلسطين على ضوء الهجرة اليهودية المتزايدة إليها. وفي عام 1956 انعقدت في بيروت، بدعوة من رئيس الوزراء اللبناني هذه المرة، قمة عربية طارئة لبحث العدوان الثلاثي على مصر.
غير أن المحاولات الرامية لمأسسة مؤتمرات القمة العربية وتحويلها إلى مؤتمرات اعتيادية تعقد دوريا لم تثمر إلا في منتصف الستينيات. ففي عام 1964 دعا الرئيس المصري جمال عبدالناصر لعقد قمة عربية للرد على التهديدات الإسرائيلية بتحويل مجرى مياه نهر الأردن واستجابت الدول العربية لهذه الدعوة بالفعل.
غير أن الجديد هذه المرة كان إقدام هذه القمة، ولأول مرة منذ إنشاء جامعة الدول العربية، باتخاذ قرار ينص على دورية انعقاد القمم العربية مرة واحدة على الأقل كل عام. ورغم عدم التزام الدول العربية بالتنفيذ الصارم لهذا القرار، إلا أن الجامعة العربية بدأت تؤرخ لدورية القمم العربية اعتبارا من قمة القاهرة التي تعتبرها أدبيات الجامعة «مؤتمر القمة العربي الأول».
وفيما بين دورة الانعقاد الأولى، التي عقدت بالقاهرة عام 1964، ودورة الانعقاد السابعة والعشرين، التي عقدت منذ ايام في نواكشوط، عقدت قمم عربية كثيرة في معظم العواصم العربية لكن هذه القمم تصنف باعتبارها «طارئة» أو دورات انعقاد «غير اعتيادية».
لا يستطيع أحد أن ينكر أن إقدام موريتانيا على استضافة القمة العربية الأخيرة كان عملا شهما يحسب لهذه الدولة وأدى إلى إنقاذ دورية انعقاد القمم العربية، لكن يلاحظ هنا أن تجاوب بقية الدول الأعضاء مع هذه الشهامة الموريتانية لم يكن على المستوى المطلوب وعكس حرص الدول العربية على مظهر العمل العربي المشترك بأكثر من حرصها على جوهر هذا العمل وسلامته. لذا يمكن القول إن انعقاد الدورة السابعة والعشرين لمؤتمر القمة العربية في نواكشوط لا يقوم دليلا على عودة الحيوية للنظام الإقليمي العربي، بل ربما يكون العكس هو الصحيح. فلم يحضر قمة نواكشوط سوى عدد محدود من القادة العرب، معظمهم ينتمون إلى دول الهامش وليس إلى دول القلب، ما جعلها تبدو أقرب ما تكون إلى اجتماع على مستوى وزراء الخارجية منها إلى مؤتمر للقمة، بل وتم اختزال فترة الانعقاد إلى يوم واحد بدلا من يومين، ما أعطى الانطباع بأن القادة العرب تصرفوا وكأنهم يريدون أن يفرغوا بسرعة من مهمة شكلية أو روتينية لا ضرورة لها. لذا لم يتمكن القادة العرب من الارتقاء إلى مستوى اللحظة، وهو ما يعكسه البيان الختامي الصادر عن هذه القمة، وبوضوح شديد. فعلى الرغم من أن مؤتمر نواكشوط انعقد تحت شعار «قمة الأمل» إلا أنه لم يتمكن من اتخاذ أي خطوة من شأنها تمكين الشعوب العربية من استعادة الأمل في مستقبل أفضل، بل لا نبالغ إن قلنا ان الشعوب العربية خرجت من هذه القمة أكثر إحباطا وأكثر إحساسا بالضياع من أي وقت مضى. لم يتضمن البيان الختامي لقمة نواكشوط اتفاقا على أي آلية فعالة لتسوية الأزمات والحروب الأهلية المشتعلة في سوريا وفي ليبيا وفي اليمن وفي العراق، واكتفى بمناشدة الأطراف المعنية بالعمل على «مواصلة الجهود للتوصل إلى تسويات سلمية» لهذه الأزمات!!. وفيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، التي لا تزال جميع الدول العربية تؤكد في خطابها السياسي الرسمي «مركزيتها» وعلى أنها «قضية العرب الأولى»، لم تكن قمة نواكشوط في وضع يمكّنها حتى من التمسك بالمبادرة العربية، التي سبق إقرارها في قمة بيروت عام 2002، ولم يكن لديها ما تقدمه لهذه القضية سوى «التعبير عن ترحيبها بالمبادرة الفرنسية»!!. الأغرب من ذلك أن البيان لم يشر من قريب أو بعيد إلى «القوة العربية المشتركة»، التي اقترحت مصر تشكيلها وجرى إقرارها من حيث المبدأ في قمة شرم الشيخ، التي عقدت في العام الماضي. وحين سئل الأمين العام لجامعة الدول العربية عن أسباب عدم تضمين البيان الختامي أي إشارة لهذا الموضوع، فقد راح يتخفى وراء «سرية» بعض القرارات!!. ولم يكن لذلك سوى معنى واحد وهو الاستعانة بالتدليس كأداة لتبرير العجز أو الفشل. فالمنظمة التي سبق لها أن فشلت في إنشاء محكمة عدل عربية أو مجلس أمن عربي أو سوق عربية مشتركة لا يمكن أن تنجح في إنشاء قوة عربية مشتركة. لذا لا استبعد أن تكون قمة نواكشوط هي آخر القمم العربية.