كثيرون أولئك الذين تنشط عندهم عين السخط لتبدي الأشياء بحجم أكبر من حجمها الطبيعي، وهذه العين تظهر بوضوح عند أولئك الذين لا يعجبهم العجب، فهم على كل شيء ناقمون، وما يشحن نفوسهم من المرارة والاستياء من كل شيء، وحب اللوم والانتقاد.. يدفعهم إلى هذه النظرة السلبية لواقعهم ولعلاقاتهم بغيرهم، حتى عندما تكون الصورة واضحة أمامهم فإنهم لا يرونها على حقيقتها، بل يرونها من خلال تلك النظرة السوداوية التي تحيل حياتهم إلى سلسلة من القلق الدائم، والتوتر في العلاقات، ورفض كل ما هو كائن دون التفكير فيما يجب أن يكون.
نظرة السخط هذه كثيرا ما جنت على أصحابها، ودفعتهم إلى الكثير من المواقف المحرجة التي لا يستفيدون من دروسها، لأنهم يكررون النظرة ذاتها فيما يتعلق بهم أو بسواهم.. في المنزل وفي العمل وفي جميع الأماكن، وفي علاقاتهم الخاصة والعامة، وفي المجتمع عموما، بل وحتى الوطن لم يسلم من أذاهم، وباختصار هم ناقمون على كل شيء.. ينتقدون، ويلومون، ويعترضون، ويحتجون، بسبب وبغير سبب، وهي حالة من الحالات المرضية التي تدل على أن أصحابها غير أسوياء لا في سلوكهم ولا في تفكيرهم، فالنقمة على الأسرة إن أخطأ أحد أفرادها، والنقمة على العمل وزملاء العمل عند أي تقصير، والنقمة على المجتمع عند أي ملاحظة عامة، كل ذلك ليس سوى جانب من جوانب هذا الإحساس المتعمق في نفوسهم التي لا ترى سوى القبيح حتى في الجمال ذاته، وإذا سألتهم عن أسباب نقمتهم وتذمرهم ولومهم الدائم، لن تجد لديهم جوابا مقنعا ولا دليلا حاسما ولا حجة يعتد بها، وبالمقابل هم لا يفكرون في محاولة إصلاح الواقع الذي يشكون من سوئه، لانشغالهم عن البناء بالهدم، وعن إقرار الحقيقة.. بتجاهلها، وعن الإحساس بالواقع.. برفضه، وهو رفض سلبي لا يقدم البدائل ولا يسهم في الوصول إلى الأفضل، فنفوسهم متخمة بالإحساس العميق بأن لا شيء يجري في مجراه الصحيح، ولا شيء يظهر بشكله المطلوب، وهم في الوقت نفسه لا يملكون مقياسا لما هو صحيح، أو معرفة بما هو مطلوب، فعين السخط تحجب الرؤية الواقعية لكل ما قد يعترض طريقهم، سواء أكان صغيرا أو كبيرا، ولا فرق بين عمل متقن، وآخر غير متقن، لأن نظرتهم للأمور لا تتغير حتى وإن كانت هذه الأمور في الدرجة الأولى من الاتقان، دون أدنى محاولة منهم، لإصلاح ما هو خطأ، وتصحيح ما هو منحرف عن مساره الصحيح، مع أن الهدم، دون محاولة المشاركة في البناء، هو من أسباب معوقات التنمية، التي يسعى الجميع لإنجازها على أفضل وجه.
ولا شك أن التعامل مع هذه الفئة من الناس متعبة ومؤذية لهم ولغيرهم، وكثيرا ما نصادف مثل هذه العينات التي أظن أن أحدهم لو لم يجد ما ينتقده أو يذمه سيلجأ ودون تردد لانتقاد أو ذم نفسه، كما فعل ذلك الشاعر الذي هجا نفسه عندما لم يجد من يهجوه، وهذا نوع من الحماقة التي أعيت من يداويها. ثمة أمر لا بد أن يدركه هؤلاء الناقمون هو أن ثقة الناس بهم غالبا ما تتلاشى بسرعة، خاصة عندما يتعرض هؤلاء الناس للنقد أو اللوم في سلوكياتهم وآرائهم الخاصة، فمن يواجهون كثرة الانتقاد لكل ما يتعلق بهم من تصرفات أو آراء أو وجهات نظر، سوف ينصرفون عن من ينصب نفسه حكما على كل ما يتعلق بهم، ولا بد من الاعتراف بأن لغة الرفض والانتقاد إذا تحولت إلى سلوك، فإن من ابتلي بها لن يجد في النهاية من يثق به أو بوجهة نظره، وهو في حقيقته من أصحاب النفس اللوامة التي لا ترضى بشيء، ولا تقبل بواقع، ولا تستسلم للاقتناع، مهما كانت البراهين قوية والحجج واضحة، والنفس اللوامة من أسوأ ما يمكن أن يواجه الإنسان، وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
إن شر الجناة في الأرض نفس تتوقّى قبل الرحيل الرحيلا وترى الشوك في الورود وتعمى أن ترى الندى فوقها إكليلا والذي نفسه بغير جمال لا يرى في الوجود شيئا جميلا