من يتتبع الكتابات الإسلامية المعاصرة التي تناولت الحديث عن مفهوم التسامح خلال الفترة الممتدة إلى نهاية القرن العشرين، سيجد أن هذه الكتابات تغلب عليها بصورة واضحة النزعة الدفاعية والحجاجية، النزعة التي شكلت باعثا لبعض هذه الكتابات، وتأثرت بها وتلونت بنية وبيانا، فكانت بمثابة العامل المؤثر لما قبل هذه الكتابات. وعند البحث عن التطبيقات، سنجد تجليات هذه النزعة الدفاعية والحجاجية تظهر بصور ودرجات متعددة ومختلفة في جميع الأعمال التي نعرفها تقريبا، فقد ظهرت في أول عمل يؤرخ له مع مطلع القرن العشرين، هو عمل الشيخ محمد عبده في كتابه (الإسلام والنصرانية.. مع العلم والمدنية)، الذي جاء ردا وحجاجا على كتابات فرح أنطون التي نشرها في مجلته الموسومة بالجامعة.
وظهرت هذه النزعة الدفاعية والحجاجية وتجلت كذلك عند الشيخ محمد الغزالي في كتابه (التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام) الصادر سنة 1953م، وأبان الشيخ الغزالي بنفسه عن هذا الموقف الدفاعي ابتداء حين حدد صورة كتابه في كونه (دحض شبهات ورد مفتريات)، وهي العبارة التي وردت على غلاف الكتاب، وجاءت متممة لعنوانه.
وقد أوضح الشيخ الغزالي أن كتابه جاء ردا على كتاب صدر في مصر لكاتب مصري مسيحي، تقصد عدم كشف هويته، فلم يذكر لا اسم الكاتب ولا اسم الكتاب، لكنه عرف الكاتب بطريقة مبهمة، إذ قال عنه انه كان يشغل وظيفة كبيرة في بلده مصر آنذاك.
وظل يصفه مرارا غضبا وانفعالا بالكاتب الصليبي، معتبرا أن المؤلف يمثل كثيرين ممن يختبئون خلفه، ويؤازرونه على متابعة نشاطه ضد الإسلام.
وذكر الدكتور رضوان السيد انه حاول التوصل لمعرفة الكتاب الذي أشار إليه الشيخ الغزالي أو مؤلفه ولم يستطع رغم طول البحث حسب قوله، مع أن الدكتور السيد قد تابع دراسته في جامعة الأزهر خلال الفترة ما بين 1965-1970م.
جاء هذا الكلام، في سياق حديث الدكتور السيد عن (مسألة التسامح في كتابات العرب المحدثين والمعاصرين)، وهي مقالة نشرها في مجلة التسامح العمانية في عددها الأول شتاء 2003م، إذ تبين له حسب قوله أن آخر من تعرض لمسألة التسامح من الإسلاميين في حقبة الإسلام الإحيائي، كان الشيخ محمد الغزالي في كتابه المذكور.
ولم تغب هذه النزعة الدفاعية والحجاجية عند الدكتور يوسف السباعي في حديثه عن التسامح في كتابه (روائع من حضارتنا)، وأفصح عن هذه النزعة بقوله: (وإذا كنا قد توسعنا في التدليل على التسامح الديني في حضارتنا، فإنما نريد أن نرد فرية هؤلاء الغربيين المتعصبين على تاريخنا بأننا كنا قساة، أكرهنا الناس على الدخول في ديننا، وعاملنا غير المسلمين بكل مذلة واضطهاد، وكان من الخير لهم أن لا يفتحوا على أنفسهم هذا الباب).
وبصورة أخرى، وبدرجة أخف، ظهرت هذه النزعة الدفاعية والحجاجية عند الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في حديثه عن التسامح في كتابه (أصول النظام الاجتماعي في الإسلام)، لكن ليس بطريقة الرد على الآخر المختلف من جهة الدين كما حصل مع المحاولات الثلاث المذكورة، وإنما بطريقة البيان والرد على الذين حصل عندهم شك أو خطأ أو تحريف لمعنى التسامح في الإسلام، سواء حصل هذا الأمر عند المسلمين علماء ومفكرين أو عند غيرهم.
وشرح الشيخ ابن عاشور هذا الموقف بقوله: (فإن كثيرا من العلماء ومن المفكرين من المسلمين وغيرهم، لا يتصور معنى سماحة الإسلام حق تصورها، وربما اعتقدوا أنها غير موجودة في الإسلام، وربما اعتقد مثبتوها أحوالا لها تزيد في حقيقتها أو تنقصها عما هي عليه).
وعلى ضوء هذه الحالات ردا ودفاعا وحجاجا، اعتنى الشيخ ابن عاشور بمفهوم التسامح، وحسب قوله: لأجل هذا نرى حقا علينا أن نفيض في بيان معنى التسامح الإسلامي ومواقعه، ونكثر من شواهد اضداده، حتى ينجلي واضحا بينا لا يقبل تحريفا لمعناه ولا شك في مغزاه.
ومع أواخر القرن العشرين ظهرت هذه النزعة الدفاعية عند الدكتور شوقي ضيف في حديثه عن التسامح في كتابه (عالمية الإسلام) الصادر سنة 1996م، ولكن بطريقة أخرى، طريقة البيان الذي يستبطن دفاعا، فقد سرت النزعة الدفاعية في بيان الدكتور ضيف، فهو أشبه ببيان للدفاع عن التسامح في الإسلام دينا وثقافة وحضارة.
ومن عيوب النزعة الدفاعية أنها تدفع نحو التحيز والتحيز الشديد، الذي يظهر العمل بمظهر التحيز الواضح، الحالة التي قد تريح البعض، وهناك من يميل إلى مثل هذه الحالة، وهم في الغالب الناس العاديون أو الجمهور العام المدفوع بالعاطفة، والقريب من الخطاب البياني، لكنها لا تريح البعض الآخر، وهؤلاء في الغالب هم النخب المدفوعون في العادة بالعقل، والقريبون من الخطاب البرهاني.
ومن عيوب النزعة الدفاعية كذلك، أنها تظهر العمل بالمظهر الجامد والساكن، الذي يغلب عليه عادة في جانب الذات الميل إلى التبجيل والمدح والثناء، والبحث عن التغلب والتفوق والانتصار، وفي جانب الآخر يغلب عليه عادة الميل إلى الذم والقدح والتعييب، والبحث عن الضعف والخلل والنقص، وبهذا المظهر فإن العمل لا يبعث على الفعل والحركة، ولا يكسب الإرادة والعزيمة.