مرحلة التسويات المنفردة
تناقضت السياسة التي انتهجها الرئيس السادات في أعقاب حرب أكتوبر مع السياسة التي وضعت جامعة الدول العربية أسسها. ولأن القمم العربية أرادت أن تظل متسقة مع التوجهات العامة للسياسة التي رسمتها جامعة الدول العربية منذ تأسيسها، فقد عبرت قمة بغداد عام 1978 عن رفضها التام لاتفاقيتي كامب ديفيد ودعت الحكومة المصرية «إلى العودة عنهما»، كما دعت الدول العربية إلى «توحيد جهودها لمعالجة الخلل الاستراتيجي العربي» الناجم عن خروج مصر من معادلة الصراع العسكري مع إسرائيل، وإلى «دعم الجبهة الشمالية والشرقية ومنظمة التحرير الفلسطينية»، وأعادت تأكيد موقفها الرافض لأي «صلح منفرد»، ولم تتردد في اتخاذ قرار بنقل مقر الجامعة العربية من القاهرة وتجميد عضوية مصر فيها و«تطبيق قوانين المقاطعة على الشركات والأفراد المصريين الذين سيقبلون التعامل مع إسرائيل والتمييز بين الحكومة والشعب»، وهو الموقف الذي أعادت قمة تونس المنعقدة عام 1979 التأكيد عليه. ورغم تعرض عملية التسوية التي بدأتها مصر للاهتزاز، خاصة بعد اغتيال الرئيس السادات عام 1981 وإقدام إسرائيل على غزو لبنان عام 1982 وطرد منظمة التحرير الفلسطينية وارتكاب مذابح مروعة في مخيمي صابرا وشاتيلا، إلا أن فشل القمم العربية في بلورة استراتيجية بديلة أكثر مصداقية في إدارة الصراع مع إسرائيل، وتفكك «جبهة الصمود والتصدي» عقب دخول العراق في حرب مع إيران عقب نجاح الثورة الإسلامية فيها أفقدا مؤتمرات القمة العربية مصداقيتها.
كان لافتا للنظر عدم تمكن جامعة الدول العربية من عقد أي قمم عادية خلال الفترة من عام 1982 وحتى عام 2000، فجميع القمم التي عقدت خلال تلك الفترة، والتي بلغ عددها 12 مؤتمرا، كانت طارئة، وجرت خلالها محاولة لطرح «مشروع عربي للسلام» على أساس «انسحاب إسرائيل من جميع الأراضي العربية التي احتلتها عام 1967، وإزالة المستعمرات في الأراضي التي احتلتها بعد عام 1967، وقيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس، وتأكيد حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وتعويض من لا يرغب بالعودة» (فاس: 1982)، غير أن إسرائيل لم تعر هذا المشروع اي اهتمام، لا في حينه ولا بعد إعادة طرحه مرة أخرى في قمة بيروت عام 2002، فيما عرف إعلاميا باسم «مبادرة الملك فهد». لذا لم يكن غريبا أن تسفر التفاعلات العربية الزاخرة بالتناقضات عن تآكل تدريجي للمواقف العربية الداعية لاستمرار المواجهة مع إسرائيل والرافضة للتسوية معها، وتؤدي بالتالي إلى تحرك عربي جماعي لعودة الدول العربية إلى مصر، وليس العكس.
فقد اتخذت قمة عمان عام 1987 قرارا يؤكد أن «العلاقات الدبلوماسية بين أي دولة عضو في الجامعة العربية وبين مصر هي من أعمال السيادة تقررها كل دولة بموجب دستورها وقانونها»، فاتحة بذلك الطريق أمام تطبيع العلاقات الثنائية بين مصر وبين من يرغب من الدول العربية، ولاحقا أمام مشاركة مصر في قمة الدار البيضاء عام 1989. كان لافتا للنظر أن تعقد أول قمة في القاهرة بعد عودة الجامعة إلى مقرها الدائم في نفس العام الذي أقدم فيه العراق على غزو الكويت، وأن تجيز هذه القمة مشاركة قوات عسكرية عربية في التحالف الدولي الذي فوضه مجلس الأمن باستخدام القوة العسكرية ضد العراق. ولا شك أن حرب «تحرير الكويت» التي شاركت فيها قوات عربية إلى جانب القوات الأمريكية والغربية، هي التي فتحت الطريق أمام انعقاد مؤتمر مدريد عام 1991 والذي شاركت فيه جميع الدول العربية جنبا إلى جنب مع إسرائيل، لأول مرة في تاريخ الصراع، بحثا عن تسوية سياسية للصراع. وكان ذلك إيذانا بأن صفحة المواجهة المسلحة مع إسرائيل قد طويت رسميا. وبعد هذا التطور توقفت مؤتمرات القمة العربية تماما لست سنوات متتالية.
ما إن بدأت التوجهات الرسمية العربية تميل نحو تسوية سياسية مع إسرائيل لا تستجب للحد الأدني من الحقوق الفلسطينية المشروعة حتى أدرك الشعب الفلسطيني أنه لم يعد أمامه سوى ركوب الصعب والاعتماد على قواه الذاتية وشحذ إرادة المقاومة لديه من جديد. ولأن المقاومة المتصاعدة في الجنوب اللبناني راحت تحقق انتصارات لافتة للنظر، فقد بدأت هذه الانتصارات تشد من أزر الشعب الفلسطيني وتمنحه مزيدا من العزم والتصميم على مواصلة طريق الكفاح، فانطلقت انتفاضة شعبية فلسطينية كبرى، ومن زخمها ولدت حركة المقاومة الفلسطينية (حماس) والتي راح نفوذها ينتشر ويتعاظم بسرعة. ومع ذلك فقد عجلت التأثيرات السلبية الناجمة عن تفاعلات الغزو العراقي للكويت باندفاع منظمة التحرير الفلسطينية نحو مسار التسوية والتوقيع على اتفاق أوسلو عام 1993، ثم تبعتها الأردن ووقعت على «اتفاق وادي عربة» عام 1994. ولا جدال في أن هذه التطورات أسهمت في تعبيد الطريق أمام حماس وتمكينها من الظهور بمظهر القوة البديلة لحركة فتح، والحركة الأكثر تعبيرا عن إرادة الشعب الفلسطيني والأقدر على طرح مشروع مقاوم بديل للنهج الذي سلكته منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة عرفات، خصوصا بعد أن وصل هذا النهج إلى طريق مسدود عقب فشل المحاولة التي قام بها كلينتون عام 2000 قبل شهور قليلة من نهاية ولايته الثانية.
كانت المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله قد حققت أروع انتصاراتها في نفس العام الذي تأكد فيه انهيار عملية أوسلو لتسوية القضية الفلسطينية عام 2000، فقد تمكنت خلال هذا العام من تحرير الجنوب اللبناني وطردت قوات الاحتلال الإسرائيلي دون قيد أو شرط، وذلك لأول مرة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، وهربت قوات لحد العميلة إلى داخل إسرائيل بعد أن فشلت في حمايتها!. لذا فعندما عادت القمم العربية لاستئناف اجتماعاتها الدورية العادية اعتبارا من عام 2001، وجد القادة العرب أنفسهم في مأزق حقيقي فيما يتعلق بالقدرة على التعامل مع تطورات الصراع العربي الإسرائيلي. ولأن هؤلاء القادة بدوا عاجزين عن دفع عملية التسوية، بسبب تعنت إسرائيل ورفضها لما اعتبره القادة العرب حدا أدنى للحقوق العربية المشروعة، كما بدوا غير قادرين في الوقت نفسه على تبني أو دعم استراتيجية للمقاومة المسلحة، بسبب تكلفتها السياسية الباهظة، فقد بدأت القمم العربية تدخل مأزقا لا فكاك منه من حيث قدرتها على التعامل مع متطلبات إدارة الصراع مع إسرائيل. ولم يكن أمام القادة العرب، للخروج من هذا المأزق، سوى وعود بتقديم معونات مالية سخية، مثل تلك التي قدمت في قمة شرم الشيخ عام 2000 لإنشاء صندوقين: أحدهما برأس مال قدره 200 مليون دولار لأسر شهداء الانتفاضة ولتأهيل الجرحى والمصابين منهم، والآخر برأس مال قدره 800 مليون دولار لدعم الاقتصاد الفلسطيني.
عادت القمم العربية للانتظام في اجتماعات دورية وعقدت مؤتمرات سنوية خلال الفترة من 2001-2015 فيما عدا عام 2011، غير أن أحداثا داخلية وخارجية حالت دون تمكينها من إحداث نقلة نوعية تسمح لها ببلورة استراتيجية فاعلة سواء لدعم المقاومة أو للتوصل إلى تسوية تستجيب للحد الأدنى من الحقوق العربية. من هذه الأحداث:
1- تعنت إسرائيل وحرصها على فرض تسوية بشروطها، بدليل إقدامها على حصار ياسر عرفات في المقاطعة ثم اغتياله بالسم، وإصرارها في الوقت نفسه على سحق المقاومة في اي بلد عربي، بدليل شنها حروبا متتالية على حزب الله في لبنان (2006) وعلى حماس والجهاد في قطاع غزة (2008/2009 و2012) واستمرارها في فرض حصار كامل على قطاع غزة، بعد نجاح حماس في الحصول على أغلبية برلمانية في الانتخابات التشريعية ثم تمكنها من السيطرة المنفردة على قطاع غزة بعد حدوث انشقاق مع السلطة الفلسطينية.
2- إقدام الولايات المتحدة على غزو واحتلال العراق عام 2003 وما نجم عن هذا الاحتلال من تدمير لمؤسسات الدولة وإعادة بنائها على اسس طائفية مكنت النفوذ الإيراني من التغلغل فيها والسيطرة عليها.
3- اغتيال رفيق الحريري رئيس وزراء لبنان، وما تبع ذلك من توتر في العلاقات السورية اللبنانية، ومن خلخلة في التوازنات الداخلية في لبنان خاصة عقب انسحاب القوات السورية. 4- هبوب «ثورات الربيع العربي» وما أدت إليه من سقوط رؤوس الأنظمة الحاكمة في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن، وما ترتب عليها من اندلاع حروب أهلية في سوريا وليبيا واليمن وتحولها إلى دول فاشلة.
5- تعاظم نفوذ الجماعات الإرهابية، وتمكن بعضها، مثل داعش، من احتلال مساحات شاسعة في سوريا والعراق ومن تأسيس جماعات مقاتلة في مناطق أخرى داخل وخارج العالم العربي.
كان من المتوقع، في ظل أحداث على هذا القدر من الخطورة، أن يفتر اهتمام القمم بالقضية الفلسطينية وبحقوق الشعب الفلسطيني، وأن تظهر مصادر أخرى للتهديد في المنطقة تبدو، من وجهة نظر الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية، أخطر على أمنها الوطني وعلى الأمن القومي العربي من إسرائيل نفسها. وفي سياق كهذا أصبح إخفاق القمم العربية في التوصل إلى تسوية تضمن الحد الأدنى من الحقوق العربية المشروعة، بعد إخفاقها من قبل في المواجهة العسكرية مع إسرائيل، حقيقة واقعة.