لم يكن قرار المفوضية الاوروبية بتحميل شركة أبل المزيد من الضرائب مفاجئا للعديد من الشركات المتعددة الجنسيات التي تمارس التجنب الضريبي للاحتفاظ بأكبر قدر ممكن من الارباح دون الوفاء بالتزاماتها الضريبية تجاه بعض الدول التي ربحت الشركات من اسواقها.
ويعاني العديد من الدول ظاهرة التجنب الضريبي من قبل شركات دولية استطاعت الاحتفاظ بقدر اكبر من الارباح من خلال ثغرات في قوانين الضرائب، والذي دفع العديد من المنظمات الدولية لمناقشة سبل معالجة آثار هذه الظاهرة السلبية على كفاءة المالية العامة لدول مجموعة العشرين وغيرها من الدول التي تحتاج لتعديل قوانين الضرائب لرفع كفاءة التحصيل الضريبي.
ويختلف التجنب الضريبي عن التهرب الضريبي من حيث ان التهرب الضريبي يطرأ مثلا عند محاولة اخفاء مصدر للدخل او عدم الافصاح عن بعض التدفقات النقدية في المركز المالي، وهي جريمة يعاقب مرتكبها في الدول التي تعتمد على ضرائب الدخل لتمويل النفقات العامة.
والمقصود بالتجنب الضريبي هو استخدام الوسائل القانونية المتاحة لتعديل المركز المالي لخفض قيمة الضرائب المستحقة وهي وسائل حديثة تستغل فجوات قانونية تختلف عن الممارسات المعروفة والتي تعتبر من ابجديات حساب الوعاء الضريبي كتصنيف بعض النفقات التي تندرج ضمن ما يمكن خصمه من الوعاء الضريبي مثل كلفة الانتاج ومصاريف التشغيل. ومن امثلة الوسائل الحديثة ما تقوم به الشركات المتعددة الجنسيات لتجنب دفع الضرائب بشكل قانوني من خلال تأسيس عدة شركات فرعية للشركة «الأم» ومن ثم تقوم الشركة «الام» بتأجير حقوق الملكية لمنتجاتها الى شركاتها الفرعية بقيمة ضئيلة لخفض الوعاء الضريبي للشركة «الأم». وبعد ذلك تقوم الشركة «الأم» بتأسيس شركة فرعية «أ» في دولة ملاذ ضريبي وتمنحها حق اعادة تأجير حقوق الملكية الفكرية لمنتجاتها، ومن ثم تقوم الشركة الفرعية «أ» بتأجير حقوق الملكية الفكرية للبضائع الى شركات فرعية اخرى بسعر يتضمن هامش الربح المتوقع للشركات الفرعية المستوردة «ب» لكن ما يحدث هو ان الفرق بين سعر الواردات وسعر المبيع هو بالكاد يغطي كلفة تشغيل الشركات الفرعية المستوردة «ب»، ومن ثم تقوم الشركات الفرعية «ب» بتحويل قيمة المبيعات الى فرع الشركة الفرعية «أ» في دولة ذات نسبة ضرائب دخل متدنية، مقارنة بدول اخرى وتقع ضمن نطاق المنطقة التي تقع فيها الشركات الفرعية «ب» التي تم توحيد قوانينها المالية مثل منطقة اليورو، ثم يقوم فرع الشركة الفرعية «أ» بتحويل أغلب الأرباح من قيمة المبيعات الى المقر الرئيسي للشركة الفرعية «أ» في دولة تمنح ملاذا ضريبيا (عادة تصل الى نسبة صفرية) وتكون مناسبة لجمع حصيلة الارباح لتكون مركونة في حسابات مصرفية حتى يتم البت في مصير تلك الارباح. وعند احتياج الشركة «الام» لتدفقات نقدية لتمويل بعض عملياتها التشغيلية كالابحاث والتطوير فإنها تلجأ للاقتراض، او توقيع اتفاقية بين الشركة «الأم» والشركة الفرعية «أ» لتمويل الابحاث، والذي يجعل تلك المبالغ المحولة الى الشركة «الأم» تندرج ضمن الخصومات التي لا تحسب ضمن الوعاء الضريبي في المركز المالي للشركة «الأم».
ولم تتمكن بعض الدول من كبح هذه الممارسات القانونية للتجنب الضريبي إلا متأخرا، حيث اشارت بعض الدول الى تبنيها تعديلات لقوانين الضرائب لتخفيف اثر ممارسات التجنب الضريبي على تدني حصيلة الضرائب. فمثلا، اشارت ايرلندا الى وجود ثغرات في قانون الضرائب منحت الشركات المتعددة الجنسيات القدرة على ممارسة التجنب الضريبي، مما دفعها لتعديل بعض احكام قوانينها الداخلية من خلال وقف بعض الامتيازات للشركات الاجنبية في العام الماضي ومنح فترة للشركات لتعديل اوضاعها قبل نفاذ تلك التعديلات عام 2020.
وفي المقابل استبقت المفوضية الاوروبية مبادرات الدول من خلال فتح تحقيق ضد العديد من الشركات المتعددة الجنسيات للكشف عن ممارسات التجنب الضريبي وارتباطها بمعاملة تفضيلية لبعض الشركات الاجنبية مقارنة بشركات محلية، والذي دفع المفوضية الاوروبية الى تكييف تلك المعاملات التفضيلية الى افعال تندرج ضمن ما يسمى دعم الدولة التفضيلي، وهو حسب اعتقاد المفوضية الاوروبية يخالف المادة 107 من «اتفاقية اداء الاتحاد الاوروبي» التي تحظر اي ممارسات تفضيلية من الدول الاعضاء تخالف مبادئ المنافسة ضمن منطقة اليورو.
واصدرت المفوضية الاوروبية عدة قرارات ضد نشاط شركة ابل في ايرلندا ونشاط شركة ستاربكس في هولندا ونشاط شركة فيات في لوكسمبورغ. وتطالب المفوضية الاوربية ان تقوم الدول بتحصيل الضرائب التي تم تجنيبها من تلك الشركات المتعددة الجنسيات لرفع الضرر الذي اصاب الشركات المحلية خلال فترة تمتع الشركات الاجنبية بمعاملة تفضيلية، حيث تعتقد المفوضية الاوروبية ان تحصيل قيمة تلك الضرائب يعيد التوازن لقوى السوق ويزيل الفوارق المالية التي قد تؤثر على قدرة الشركات المحلية على المنافسة في منطقة اليورو.
وتنوي الشركات المتعددة الجنسيات مع الدول الاعضاء التقدم بطلب استئناف لقرارات المفوضية الاوروبية لدى المحكمة الاوروبية بناء على مبدأ عدم نفاذ قوانين الضرائب بأثر رجعي، إلا ان هذه الحجة قد لا تكون كافية، حيث ان القرار لم يبن على تشريعات جديدة بل يقوم على تفسير نص المادة 107 من اتفاقية اداء الاتحاد الاوروبي، والذي يدفع المحكمة الاوروبية الى دراسة صحة تطبيق قرار المفوضية الاوروبية لاحكام المادة 107 النافذة منذ التوقيع عليها في 2007.
وقد يؤثر قرار المفوضية الاوروبية على معدلات توزيع ارباح الشركات، حيث ستقوم كل شركة بتخصيص جزء من ارباحها كاحتياطي لسداد الضرائب المتوقع تحصيلها من قبل دول الاتحاد الاوروبي وهو عامل مؤثر يدفع المراقبين لدراسة اثره على اسعار اسهم تلك الشركات.
ومن تبعات قرار المفوضية الاوروبية تضاؤل حصة الولايات المتحدة من الضرائب التي ستجنيها من تلك الارباح المودعة في الملاذات الضريبية، حيث ان الشركات الامريكية ستطلب خصم قيمة الضرائب التي تم تحصيلها من قبل الاتحاد الاوروبي حسب اتفاقية منع الازدواج الضريبي، وبالتالي قد يدفع ذلك الى استعجال الكونغرس الامريكي لمنح تلك الشركات الامريكية تخفيضات ضريبية مؤقتة من الضرائب للسنوات السابقة لضمان عودة تلك الارباح الى اقتصاد الولايات المتحدة، حيث سبق ان قام الكونغرس الامريكي بمنح اعفاءات مؤقتة للاحتياطيات النقدية للشركات الامريكية في عام 2004 عن طريق خفض ضريبة الدخل الى 5.25 بالمائة الذي ادى الى عودة 360 مليار دولار الى الاقتصاد الامريكي.
واشارت وزارة الخزينة الامريكية في ورقة عمل رسمية صدرت الاسبوع الماضي الى ان تطبيق قرار المفوضية الاوروبية بأثر رجعي هو سابقة تمنح دولا اخرى دافعا لاتخاذ خطوات مشابهة، ويؤثر سلبا على الجهود الدولية لمجموعة العشرين لمعالجة ظاهرة التجنب الضريبي،
ومنذ عام 2012 ادرجت مجموعة العشرين ضمن اجندتها ملف معالجة ممارسات التجنب الضريبي لبحث الحلول الممكن تبنيها ضمن اطار اوسع يشمل اكثر من مائة دولة.
وبادرت منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية بتقديم خطة عمل لإعداد دليل استرشادي يحتوي مبادئ واحكاما تساعد الدول على التصدي لممارسات التجنب الضريبي وسد الفجوات في قوانين الضرائب التي تدفع الشركات للاستمرار في ممارسات التجنب الضريبي. وقد صدر الدليل الاسترشادي في عام 2013 ويحتوي على عدة مبادئ، منها الموازنة بين وجود مبدأ منع الازدواج الضريبي وبين مبدأ منع ازدواجية الاعفاء الضريبي، والاتفاق على معايير موحدة لوسائل التحصيل الضريبي تساهم في تعزيز الرقابة على المركز المالي للشركات لرفع كفاءة حساب الوعاء الضريبي. وقامت المنظمة في عام 2014 بإعداد صيغة مقترحة لاتفاقية دولية تحوي احكام خاصة تعالج ظاهرة التجنب الضريبي.
ومن خلال مشاركة السعودية كعضو فاعل في مجموعة العشرين فإن تبنيها المعايير الدولية المقترحة لمعالجة ظاهرة التجنب الضريبي سيلعب دورا رئيسيا في تحقيق رؤية المملكة 2030، لذلك يبقى على عاتق مصلحة الزكاة والدخل متابعة مستجدات المعايير الدولية لرفع كفاءة التحصيل الضريبي نتيجة تزامن الاتجاه العام لتعزيز الاستثمار الاجنبي مع اهمية تغطية نفقات المرافق العامة. وهو المأمول منها بعد جهودها لرفع كفاءة التحصيل الضريبي بعد استحداثها نظام ايراد الالكتروني، الذي يفرض على المنشآت تسجيل وعائها الزكوي والضريبي الكترونيا، وقيامها بتدريب منسوبيها بمهارات التحصيل الضريبي خصوصا من المنشآت الاجنبية التي تقدم خدماتها محليا دون وجود مقر دائم لها، وهو ما يعكس تحسنا تدريجيا في معالجة ظاهرة التجنب الضريبي محليا.