ابدع العديد من الشعراء في وصف رحلة الحج، تلك الرحلة الروحانية إلى بيت الله الحرام، التي يكون فيها الانسان متجردا من كل شيء وهو بين يدي الخالق في المشاعر المقدسة.. فلا رفث ولا فسوق، ولكن خشوع وتضرع الى الله وطلب الرحمة والمغفرة.
ومن بين القصائد التي فصلت رحلة الحج وأفاضت في وصفها ميمية ابن القيم الجوزيه - رحمه الله - المتوفى عام 751هـ التي وصف فيها مناسك الحج: الطواف والوقوف بعرفة ورمي الجمرات، والحنين والشوق لتلك الأماكن المقدسة.
أما والذي حج المحبون بيته ولبوا له عند المهل وأحرموا
وقد كشفوا تلك الرؤوس تواضعا لعزة من تعنو الوجوه وتُسلمُ
يهلون بالبيداء: لبيك ربنا لك الحمد والملك الذي أنت تعلم
دعاهم فلبوا رضا ومحبة فلما دعوه كان أقرب منهم
تراهم على الأنضداد شعثا رؤوسهم وغبرا وهم فيها أسر وأنعم
وقد فارقوا الأوطان والأهل رغبة ولم يثنهم لذاتهم والتنعم
يسيرون من أقطارها وفجاجها رجالا وركبانا ولله أسلموا ويصف ابن القيم صعود الحجيج إلى عرفات:
وراحوا إلى التعريف يرجون رحمة ومغفرة ممن يجود ويكرم
فلله ذاك الموقف الأعظم الذي كموقف يوم العرض بل ذاك أعظم
ويدنو به الجبار جل جلاله يباهي بهم أملاكه فهو أكرم
يقول: عبادي قد أتوني محبة وإني بهم بر أجود وأكرم
فأشهدكم أني غفرت ذنوبهم وأعطيتهم ما أملوه وأنعم
فبشراكم يا أهل ذا الموقف الذى به يغفر الله الذنوب ويرحم
فكم من عتيق فيه كمل عتقه وآخر يستسعى وربك أكرم ثم إلى مزدلفة وحتى طواف الوداع والرحيل بحسرة والأمل في العودة الى بيت الله:
ولما تقضوا من منى كل حاجة وسالت بهم تلك البطاح تقدموا
إلى الكعبة البيت الحرام عشية وطافوا بها سبعا وصلوا وسلموا
ولما دنا التوديع منهم وأيقنوا بأن التداني حبله متصرم
ولم يبق إلا وقفة لمودع فلله أجفان هناك تسجم
فلم تر إلا باهتا متحيرا وآخر يبدي شجوه يترنم
رحلت وأشواقي إليكم مقيمة ونار الأسى مني تشب وتضرم
أودعكم والشوق يثني أعنتي إليكم وقلبي في حماكم مخيم
هنالك لا تثريب يوما على امرئ إذا ما بدا منه الذي كان يكتم
ولعل قصيدة الشاعر أحمد شوقي الى عرفات الله من القصائد التي حظيت بالوقوف عندها والتغني بها لما فيها من صدق المشاعروالتأكيد على وحدة المسلمين رغم اختلاف جنسياتهم ولغاتهم وبلادهم الا انهم جميعا أمام خالقهم لا فرق ولا تمايز. يقول شوقي واصفا رحلة المناسك من عرفات إلى رمي الجمرات:
إإِلى عرفاتِ اللهِ يا خير زائِرٍ عليك سلامُ اللهِ في عرفاتِ
ويوم تُولِي وِجهة البيتِ ناظِرا وسيم مجالى البِشرِ والقسماتِ
على كُلِ افقٍ بِالحِجازِ ملائِك تزُفُ تحايا اللهِ والبركاتِ
إِذا حُدِيت عِيسُ المُلوكِ فإِنهُم لِعيسِك في البيداءِ خيرُ حُداةِ
لدى البابِ جِبريلُ الأمينُ بِراحِهِ رسائِلُ رحمانِيةُ النفحاتِ في الكعبةِ الغراءِ رُكن مُرحِب بِكعبةِ قُصادٍ ورُكنِ عُفاةِ
وما سكب الميزابُ ماء وإِنما أفاض عليك الأجر والرحماتِ
وزمزمُ تجري بين عينيك أعيُنا مِن الكوثرِ المعسولِ مُنفجِراتِ
ويرمون إِبليس الرجيم فيصطلي وشانيك نيرانا مِن الجمراتِ
يُحييك طه في مضاجِعِ طُهرِهِ ويعلمُ ما عالجت مِن عقباتِ
ويُثني عليك الراشِدون بِصالِحٍ ورُب ثناءٍ مِن لِسانِ رُفاتِ
ثم يصف الحجيج وقد جاءوا من كل بقاع الأرض مختلفي اللغات
والجنسيات.. جمعها البيت الطهور:
لك الدينُ يارب الحجيجِ جمعتهُم لِبيتٍ طهورِالساح والعرصاتِ
أرى الناس أصنافا ومِن كُلِ بُقعةٍ إِليك انتهوا مِن غُربةٍ وشتاتِ
تساووا فلا الأنسابُ فيها تفاوُت لديك، ولا الأقدارُ مُختلِفاتِ
عنت لك في التُربِ المُقدسِ جبهة يدينُ لها العاتي مِن الجبهاتِ
مُنورة كالبدرِ، شماءُ كالسُها وتُخفضُ في حقٍ، وعِند صلاةِ
وللشاعر ابن الأمير الصنعاني قصيدة شهيرة في ذكر الحج وبركاته يقول في مطلعها عند رؤية البيت الحرام:
ومازال وفدُ اللهِ يقصِدُ مكة إِلى أن بدا البيتُ العتِيقُ ورُكناهُ
فضجت ضُيُوفُ اللهِ بِالذِكرِ والدُعا وكبرتِ الحُجاجُ حِين رأيناهُ وقد كادتِ الأرواحُ تزهقُ فرحة لِما نحنُ مِن عُظمِ السُرُورِ وجدناهُ تُصافِحُنا الأملاكُ من كان راكِبا وتعتنِقُ الماشِي إِذا تتلقاهُ وعند طوافُ الوداع يقول في ألم: وبات حجِيجُ اللهِ بِالبيتِ مُحدِقا ورحمةُ ربِ العرشِ ثمة تغشاهُ تداعت رِفاقا بِالرحِيلِ فما ترى سِوى دمعِ عين بِالدِماءِ مزجناهُ لِفُرقةِ بيتِ اللهِ والحجرِ الذِي لأجلِهِما صعب الأمُورِ سلكناهُ وودعتِ الحُجاجُ بيت إِلهِها وكُلُهُمُ تجرِي مِن الحُزنِ عيناهُ فلِلهِ كم باكٍ وصاحِبِ حسرةٍ يودُ بأن الله كان توفاهُ أما الشاعر محمود حسن إسماعيل فقد حاول استخلاص العبر والمواعظ من رحلة الحج والوصول إلى الأسرار الروحية للمناسك وأثرها على الحجيج، فحينما ينزل الشاعر إلى الأراضي المقدسة يتبادل السلام مع حمام الحمى ويقول:
ولما نزلنا بأرض الهدى... ورد السلام حمام الحرم وطفنا مع الشوق حول الستور ورحنا بأرواحنا نستلم دعونا وماذا تقول الشفاه إذا الروح غنت بسحر النغم وعندما يدخل إلى البيت الحرام يقول:
هنا النور يشرق في كل عين... هنا العطر يسبح في الروضتين هنا الروح في عتبات الضياء وفوق الصفا وعلى المروتين صفاء يعطر كل الدروب وطهر يفيض على الجانبين هنا مهبط الوحي من سار فيه سرى هائم الروح في جنتين
وللشاعر السعودي فؤاد شاكر قصيدة عمودية بعنوان: (الحج إلى بيت الله الحرام) يصف فيها أفواج الحجيج التي تأتي إلى البيت من المشارق والمغارب يظلها لواء «محمد» (صلى الله عليه وسلم).. قائلا:
أهلت بأفواج الحجيج المواكب وخفت إلى البيت الحرام المناكب
تدانت بهم من كل صقع محافل وفاضت بهم من كل حدب نجائب
مشاة وركبانا على كل ضامر فمن كل فج أدرك الحج طالب
تلاقت على صدق العقيدة أخوة ؤلفها من صادق الرأي صائب
جموع تباريها جموع كأنها عصائب طير تحتذيها عصائب
يحف بهم فيض الخشوع وهذه مدامعهم عبر الجفون مسارب