من بين القضايا الهامة العديدة التي أثارت اهتمامات ومناقشات المشاركين في منتدى البحرين الصناعي 2016 الذي اختتم أعماله الأسبوع الماضي في البحرين هي أن الظروف الإقليمية والعالمية الراهنة تحتم على دول المجلس إعادة النظر في آلية وماهية التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها طول العقود الماضية، داعين إلى تبني نموذج الاقتصاد الأزرق في التنمية المستدامة.
وبرز في السنوات الأخيرة مفهوم «الاقتصاد الأزرق» من رحم ما تعارف على تسميته أيضا بالاقتصاد الأخضر، حيث كانت جماعات حماية البيئة والمجتمع المدني والمؤسسات الدولية تطالب بالاستعاضة عن التنمية الاقتصادية التقليدية، التي تعتمد على الوقود الأحفوري، بنموذج نمو «أخضر» أقل اعتماداً على الكربون. بعدها برز خيار ثالث أكثر تنافسية: وهو الاقتصاد «الأزرق» الذي يقوده الإبداع على مستوى المال والأعمال، بدلاً من السياسات التي تتجه من أعلى إلى أسفل.
ويقول السيد ياسر الصالح في دراسة حول الموضوع إن أغلب التكنولوجيات الرحيمة بالبيئة تتطلب استثمارات ضخمة مقدما، وهذا يعني أن «تبَنِّي السياسات الخضراء» يظل امتيازاً محفوظاً لقِلة من البلدان القادرة على تحمل تكاليفها. وقدرة الحكومات على توفير إعانات الدعم محدودة على أية حال، ومن غير الممكن أن نتوقع من البلدان الغنية أن تتحمل تكاليف استيعاب التكنولوجيا المستدامة في مختلف أنحاء العالم. وبالتالي فكما أكدت مؤخراً الأمم المتحدة، لا يزال أكثر من مليار شخص في مختلف أنحاء العالم يفتقرون إلى القدرة على الوصول إلى الطاقة النظيفة الجديرة بالثقة وبأسعار معقولة.
بينما أن الاقتصاد الأزرق - وهو المفهوم الذي أنشأه رجل الاقتصاد البلجيكي جونتر باولي- لا يعتمد على الاستثمار بقدر ما يعتمد على الإبداع، مع التركيز على خلق فرص العمل، وبناء رأس المال الاجتماعي وتوليد التدفقات النقدية والمعلوماتية المتعددة من خلال تحفيز روح المبادرة وتطوير نماذج عمل جديدة وتبادل المعلومات ونشر المعرفة. ويتمحور الاقتصاد الأزرق حول فكرة مفادها أن الشركات لا بد أن تستخدم كل الموارد المتاحة لها وأن تعمل على زيادة الكفاءة من أجل إنشاء محفظة من المشاريع المترابطة التي تحقق الفائدة لها وللمجتمع.
وبذلك، فان هذا النموذج يهتم بنشر المعرفة وإنتاجها وتوظيفها بكفاية في جميع مجالات النشاط المجتمعي، الاقتصادي، والمجتمع المدني، والسياسة، والحياة الخاصة وصولاً لترقية الحالة الإنسانية باطراد؛ أي إقامة التنمية الإنسانية باطراد، ويتطلب ذلك بناء القدرات البشرية الممكنة والتوزيع الناجح للقدرات البشرية على مختلف القطاعات الإنتاجية. أما فيما يتعلق بمحفزات الاقتصاد المعرفي فتتمثل في العولمة وانتشار الشبكات ما أدى إلى زيادة انتقال المعلومات بشكل أسرع واتاحتها للجميع. وهو يعني في جوهره تحول المعلومات الى أهم سلعة في المجتمع بحيث تم تحويل المعارف العلمية الى الشكل الرقمي وأصبح تنظيم المعلومات وخدمات المعلومات من أهم العناصر الأساسية في نموذج هذا الاقتصاد المعرفي. وبطبيعة الحال، إذا أردنا مقاربة مفاهيم الاقتصاد الأزرق بوجود التنمية في دول مجلس التعاون الخليجي، فان تلك المفاهيم تقترب كثيرا من مفاهيم اقتصاد المعرفة والابتكار والابداع. وقد حصلت جميع دول الخليج العربية على مراكز متقدمة في مؤشر الاقتصاد المعرفي بين 15 دولة عربية احتواها تقرير البنك الدولي لعام 2015، إذ نالت دولة الإمارات العربية المتحدة المركز الأول، جاءت بعدها البحرين ثم سلطنة عمان، والمملكة العربية السعودية، وقطر وأخيراً الكويت. ويتفق الخبراء أن الانتقال للاقتصاد الأزرق ينطوي التركيز أيضا على عدة ركائز من بينها الابتكار(البحث والتطوير) أي وجود نظام فعال من الروابط التجارية مع المؤسسات الأكاديمية وغيرها من المنظمات التي تستطيع مواكبة ثورة المعرفة المتنامية واستيعابها وتكييفها مع الاحتياجات المحلية. كذلك التعليم، وهو من الاحتياجات الأساسية للإنتاجية والتنافسية الاقتصادية. حيث يتعين على الحكومات أن توفر اليد العاملة الماهرة والإبداعية أو رأس المال البشري القادر على ادماج التكنولوجيات الحديثة في العمل. وتنامي الحاجة إلى دمج تكنولوجيا المعلومات والاتصالات فضلا عن المهارات الإبداعية في المناهج التعليمية وبرامج التعلم مدى الحياة. كما أن توفر البنية التحتية المبنية على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات التي تسهل نشر وتجهيز المعلومات والمعارف وتكييفه مع الاحتياجات المحلية سوف يحقق الدعم للنشاط الاقتصادي وتحفيز المشاريع على إنتاج قيم مضافة عالية.
وفي تشخيصهم واقع الصناعة المعرفية في دول المجلس، يرى هؤلاء الخبراء انه يجب أن يجري التركيز على الموارد البشرية ذات المهارة العالية، حيث ان مقارنة مؤشرات الموارد البشرية تعكس الأهمية الكمية والنوعية لهذه الموارد، ومدى جاهزيتها لتطبيق المعرفة ودعم تطوير الصناعات المعرفية في إطار اقتصاد معرفي.
لذلك فان دول المجلس بحاجة إلى إستراتيجية وطنية للإبداع والابتكار، مدعومة بشبكة من مراتب التميز والبحوث والتطوير، وذلك بهدف النهوض بالقدرات العلمية والتكنولوجية، وتسجيل أسماء دول المجلس عالميا من خلال تسجيل براءات الاختراع وحقوق الطبع والعلامات التجارية، بحيث يمكن تحديد هوية هذه الدول المحفزة لمواهب مواطنيها والجاذبة للخبرات والاستثمارات التي تعود بالنفع على المواطن بصورة مباشرة. ان واقع البحث العلمي والتكنولوجي بحاجة ماسة جدا الى مراجعة شاملة لمنظومة العلوم التقنية والمدخلات والمخرجات والعمليات والمؤسسات والبيئة المحيطة في هذه الدول. ولاشك ان هذه المراجعة يجب ان تركز على تحقيق عدة أمور هي: توضيح المستوى الذي وصلت اليه هذه المنظومة من ناحية البناء والقدرات وطبيعة المدخلات والمخرجات، كذلك توضيح الدور الفعال الذي تساهم به مكونات هذه المنظومة في تقدم وتطور المجتمع وجهود التطوير المطلوب تحقيقها كي تتمكن هذه المنظومة من تحقيق الاهداف المستقبلية.
كما يعتبر التعاون العلمي والتقني بين دول مجلس التعاون الخليجي هو حجر الزاوية في تسهيل الانتقال للاقتصاد الجديد، خاصة ان معيار القوة خلال السنوات القادمة هو ما تمتلكه الأمم من انجازات تقنية وابتكارات وشبكات مالية وتجارية متماسكة تستطيع من خلالها مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، ومن الطبيعي ان القوة التقنية والمالية لن تحقق بالأمنيات. فهذه الانجازات مصدرها العقل البشري صاحب التخيلات الواسعة والقادر على نقلها الى عالم الواقع والتطبيق.