نشرت في الولايات المتحدة الأمريكية أول مراجعة محايدة للآثار المترتبة على استخدام أمريكا للتعذيب كإحد وسائل استخلاص المشتبهين بالإرهاب، فوجدوا أنه أضر بعلاقات أمريكا الاستراتيجية وأمنها القومي وعلى التعاون بينها وبين حلفائها، وقال الباحثون دوجلاس جونسون والبرتو مورا وافيريل اشميدت الذين أعدوا الدراسة في مركز كار المختص بسياسة حقوق الإنسان Carr Center for Human Rights Policy في مدرسة كندي بجامعة هارفرد ضمن فريق بحثي، ونشرتها مجلة الشوؤن الخارجية الأمريكية: إن استخدام أمريكا للتعذيب كان أحد الأسباب وراء انتشار التطرف والأعمال العدائية في منطقة الشرق الأوسط ضد بلادهم، كما أنه جعل المواطن الأمريكي في حالة خوف وعدم اطمئنان مستمر في بلده، علاوة على أنه شكل تبريرا للحكومات لتنتهك حقوق الإنسان. ومضت أكثر من سبع سنوات منذ أن أصدر الرئيس الأمريكي باراك اوباما قراره بحظر استخدام الحكومة الأمريكية للتعذيب كوسيلة لاستخلاص المعلومات من المشتبهين بالتورط في عمليات الإرهاب عن طريق الاستجواب تحت التعذيب.
الخوف من التعذيب
أكدت الدراسة أن الولايات المتحدة استخدمت أساليب قاسية في استجواب المشتبهين بالتورط في عمليات إرهابية شملت تقييدهم بالسلاسل بطرق وأساليب مؤلمة، ووضعهم في صناديق ضيقة كالتوابيت وإغلاقها عليهم وإبقاءهم في بعض الأحيان مستيقظين لأكثر من مائة ساعة إضافة إلى إجبارهم على استنشاق الماء بطريقة أطلق عليها محاكاة الإغراق. وقد ذهب المحققون في بعض الحالات الى أبعد مما سمحت به السلطات كإدخال آلات حادة في دبر المشتبه وتهديده باغتصاب أفراد أسرته وأقاربه، وفي إحدى الحالات تم تجميد مشتبه به حتى الموت وذلك بتقييده بسلاسل وتركه على أرضية مغطاة بالثلج. وعندما تولى اوباما السلطة سعى لإقناع العالم بأن الولايات المتحدة قد قلبت الصفحة وتخلت عن تلك الممارسات لكن كثيرا من الأمريكيين يتخوفون اليوم حسب ما جاء في الدراسة من انتخاب رئيس يريد أن يعود إلى ممارسة تلك الانتهاكات. واستدلت بمناظرة جرت في شهر فبراير الماضي بين مرشحي الحزب الجمهوري للرئاسة أقسم فيها دونالد ترامب بأنه سيعيد استخدام التعذيب، وسيسمح به ويضيف إليه أسلوبا يكون بمثابة الجحيم وأسوأ بكثير من محاكاة الإغراق التي كانت مستخدمة في عهد الرئيس بوش.
وعبر معدو الدراسة عن تخوفهم من ان أغلبية الأمريكيين يعتقدون حسب استطلاع أجرته صحيفة «واشنطن بوست» وقناة «اي بي سي نيوز» في عام 2014م أجاب فيه معظمهم بأن استخدام المخابرات الامريكية للتعذيب له ما يبرره. وما يزيد من هذه المخاوف ان لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ الأمريكي كانت قد أفرجت عام 2014م عن مجموعة من التقارير جاءت ضمن تحقيق استمر خمس سنوات عن برنامج اعتقال واستجواب المشتبهين الذي كانت تنتهجه وكالة الاستخبارات المركزية ادعت فيه الاقلية الجمهورية بأنه كان ناجحا، وان عددا من كبار المسؤولين السابقين في وكالة المخابرات أنشأوا موقعا على الانترنت تحت عنوان «وكالة المخابرات الامريكية أنقذت الأرواح» أصروا فيه على ان اسلوب الاستجواب الذي اتبعته الوكالة تحت التعذيب قد احبط مؤامرات ارهابية ومكن الولايات المتحدة من العثور على قيادات القاعدة وإلقاء القبض عليهم.
أطلق عقال التطرف
ودعا معدو الدراسة إلى جانب ما يترتب على التعذيب من نتائج انسانية وقانونية الى إجراء تقييم شامل يسلط الضوء على أثاره السياسية على نطاق واسع وبصفة خاصة مدى اسهامه في تشكيل مسار ما يسمى اليوم بالحرب على الارهاب. وتأثيره على علاقات الولايات المتحدة مع حلفائها وعلى الأهداف الرئيسية الأخرى التي تسعى أمريكا لتحقيقها كتعزيز الديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان على مستوى العالم. وألا ينحصر تقييم تأثير عمليات التعذيب التي ارتكبت على الامن القومي الامريكي على فوائده التكتيكية فقط وانما يجب ان يمتد ليشمل تاثيره الاستراتيجي بعيد المدى.
هذا العمل يعكف عليه فريق من الباحثين في مركز كار بجامعة هارفرد ويعتبر اول مراجعة محايدة خلصت الى ان استخدام امريكا للتعذيب في التحقيق مع المشتبهين أضر كثيرا بأمنها القومي واطلق عقال التطرف في الشرق الاوسط وأعاق كثيرا التعاون بين الولايات المتحدة وحلفائها. وأنه يعرض المسؤولين الامريكيين للمساءلة القانونية ويقوض الدبلوماسية الامريكية بل سابقة تبرر بها الحكومات الاخرى انتهاكها لحقوق الإنسان بتلك الكيفية.
التقرير والصور التي ظهرت للسطح في عام 2004م أفادت بأن الجنود الامريكيين في العراق يقومون بتعذيب واهانة المعتقلين في سجن «أبو غريب» الذي كان الجيش الامريكي يحبس فيه ما لا يقل عن 3800 مشتبه.
تأثير فظائع «أبوغريب»
وقد أكدت التحريات الاولية التي اجراها الباحثون في المركز ان تلك الفضائح الى جانب المعلومات التي تتحدث عن التعذيب في مركز الاحتجاز الامريكي في خليج جوانتانامو دفعت المتطرفين من مختلف انحاء العالم للانضمام الى المقاتلين في افغانستان والعراق ضد القوات الامريكية. والى الاشتراك في (ما يطلق عليه الامريكيون) عمليات العنف ضد هذه القوات. وتشير برقيات وزارة الخارجية الأمريكية التي سربها موقع ويكيليكس عام 2006م الى أن مسؤولين امريكيين كبارا اجتمعوا بحثوا كيفية وقف تدفق أولئك المقاتلين إلى العراق بعد أن انتهوا الى استنتاج مذهل فحواه أن إساءة معاملة سجناء «ابوغريب» وجوانتانامو كانت احد اهم الدوافع التي جعلت الجهاديين الأجانب ينضمون إلى الحرب. بل إن السيناتور جون مكين توصل في عام 2008م لاستنتاح مماثل بعد سؤاله لمسؤول كبير في القاعدة كان قد ألقي عليه القبض عن السبب الذي دفعهم لإنشاء موطئ قدم لهم في العراق. فأجاب السجين وفقا لإحدى برقيات وزارة الخارجية بأن سببين دفعا القاعدة للدخول إلى العراق ووفرا لها أعظم أداة تجنيد وهما الفوضى التى تسبب فيها الغزو وما كان يحدث في سجن «ابوغريب». هذا القول عززه روبرت بيب استاذ العلوم السياسية بجامعة شيكاغو بمزيد من التأكيد والمصداقية عند ما حدد 26 شريط فيديو استشهادي martyrdom videos تحدث فيها الانتحاريون عن التعذيب في «أبوغريب» كأحد الدوافع وراء ما يقومون به من هجمات. وقد تحولت صور الأمريكيين وهم يعذبون سجناء إلى بند ثابت ضمن خطاب الجهاديين الإعلامي. وحسب الدراسة فإن الكشف عن المعاملة السيئة التي مارسها الجنود الأمريكيون في «أبوغريب» وجوانتانامو جعلت من السهل على الجهاديين السنة في العراق تكوين صورة شريرة عن الولايات المتحدة. وصارت صور الامريكيين وهم يعذبون السجناء دليلا قويا يستشهدون به في خطابهم الاعلامي. وقد استخدمت لتبرير استهداف وخطف وذبح كل من يتهم بالتعاون مع الولايات المتحدة وحلفائها. فمثلا عندما قام ابومصعب الزرقاوي زعيم تنظيم القاعدة في العراق في ذلك الوقت بقطع رأس المقاول الامريكي نيكولاس بيرغ عام 2004م كأول عملية ذبح في هذا الصراع، قالت جماعته: ان ما فعلوه جاء ردا على الانتهاكات التي ترتكب في سجن «أبو غريب».
بل ان التعذيب الذي تمارسه الولايات المتحدة ما زال في رأي الباحثين من مركز جامعة هارفرد يلعب حتى اليوم دورا مهما في خطاب تنظيم داعش الذي تناسل من القاعدة. فقد تلاحظ ان مقاتلي التنظيم يجبرون سجناءهم على ارتداء سترات صفراء مشابهة للتي يرتديها المحتجزون في خليج جوانتانامو. ويقومون بتعذيب من يقعون في ايديهم بنفس طريقة محاكاة الاغراق في الماء التي كان يستخدمها الجيش الامريكي في ابوغريب. فقد اضفت الولايات المتحدة حسب الدراسة نوعا من الشرعية على هذه الاساليب التي صار يستخدمها الارهابيون على انها اساليب انتقام مبررة. واعطت ضوءا اخضر بأن معايير المعاملة الانسانية في الحرب ضد الارهاب لا تكون ملزمة لاي من الاطراف.
فقدان الثقة بأمريكا
والكشف عن التعذيب كان تأثيره أبعد من ذلك. فقد جعل من الصعب على الولايات المتحدة تجنيد حلفاء من المواطنين العراقيين فقد حاول الجيش الامريكي في جزء من استراتيجته في العراق اقناع العراقيين بان اوضاعهم ستكون افضل حالا اذا ما وقفوا الى جانب الجنود الامريكيين بدل مساندة المقاتلين. لكن بعد تسريب صور اساءة معاملة المحتجزين في ابوغريب فقد كثير من العراقيين الثقة في الولايات المتحد كجهة يمكن الركون اليها ورفضوا تقديم العون لجنودها.
هذا ما اعترف به الجنرال استانلي ماريستال القائد السابق للعمليات الامريكية الخاصة المشتركة في مقابلة أجرتها معه مجلة الشؤون الخارجية عام 2013م وقال فيها: «ان ما اضر بنا في حرب العراق اكثر من اي شيء آخر كان سجن (ابوغريب).. لقد شعر العراقيون بانه كان دليلا كافيا على ان الامريكيين يفعلون بالضبط ما كان يفعله صدام حسين. وان كل ما كانوا يعتقدونه من سوء عن الامريكيين هو في الحقيقة صحيح».
الدولة المنبوذة
قدمت الدراسة أمثلة ونماذج كثيرة استدلت بها على ان استخدام الولايات المتحدة للتعذيب وراء ظهور المتطرفين في منطقة الشرق الأوسط. وأنه تسبب في تقويض التعاون بين واشنطن وحلفائها لمكافحة الإرهاب وأوردت حالة هولندا كمثال على ذلك. فقد اوردت برقيات وزارة الخارجية في عام 2003م ان قيادة الجيش الهولندي كانت ترغب في المشاركة في العمليات التي تقوم بها الولايات المتحدة في افغانستان الا ان معارضة الشعب الهولندي القوية لعمليات التعذيب جعلت القادة السياسيين الهولنديين يتخوفون من مواجهة ردود فعل محلية إذا ما ساهمت قواتهم في القاء القبض على اعضاء من تنظيم القاعدة او حركة طالبان الذين انتهى بهم المطاف في خليج جوانتانامو. وقد تسببت تلك المخاوف في تأخير موافقة البرلمان على مشاركة قوات هولندية حتى عام 2006م.
مثل هذه المخاوف الهولندية أعاقت ايضا التعاون بين قوات التحالف. فقد أخبر محام عسكري امريكي عام 2005م هو البرتو مورو المستشار العام في ذلك الوقت للبحرية الامريكية أحد معدي الدراسة بان القوات البريطانية اعتقلت في البصرة احد المقاتلين ثم أفرجت عنه لانه لم يكن لديها مرافق اعتقال مناسبة لاحتجازه فيها. وأنها لم تسلمه للقوات الامريكية او العراقية لأنها لم تكن تثق في انهم سيعاملونه معاملة إنسانية. ولان المساعدة والتحريض على التعذيب تعتبر جريمة يعاقب عليها القانون في بريطانيا ولا يوجد قانون يعاقب عليها في امريكا والعراق.
وقد التقى في ذلك العام محامون عسكريون من استراليا وبريطانيا وكندا ونيوزيلندا في سنغافور بالبرتو مورو أثناء مؤتمر عسكري أقيم برعاية القيادة الامريكية في المحيط الهادي وابلغوه بأن تعاون بلادهم مع الولايات المتحدة في الحرب على الارهاب من خلال الجيش والمخابرات وسلطات انفاذ القانون لن تكون كالسابق إذا ما استمرت الولايات المتحدة في تعذيب المشتبهين الذين يتم إلقاء القبض عليهم.
الحلفاء يرتابون
هذه المشاكل مضت عميقا ابعد من افغانستان والعراق واتخذت مسارات اخرى منها تأخير البرلمان الفنلندي التصديق على معاهدة بين الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة بشأن تبادل تسليم المجرمين والتعاون القانوني من عام 2004م الى عام 2007م متخوفين من استخدام امريكا للتعذيب وتسليم المشتبهين الذين يتم اختطافهم ونقلهم بطرق وممارسات غير مقبولة تتم تحت رعايتها من بلد لآخر الى جانب ضلوعها في عمليات الاحتجاز واستخلاص المعلومات بمنأى عن الرقابة القانونية. وان تصرفا كهذا قد ينتهك إحدى مواد الدستور الفنلندي الذي يحظر التعذيب وينص على ان الحرمان من الحرية لا يمكن اللجوء إليه وفرضه إلا عن طريق القضاء.
يشار هنا الى ان السلطات البريطانية قامت عام 2008م بعد تنامي مخاوفها من ان تكون الولايات المتحدة تنقل مشتبه بهم الى سجون سرية عبر المطارات البريطانية بمطالبة السفارة الامريكية في لندن ان تحصل اولا على اذن منها قبل انزال طائرات عسكرية امريكية في المملكة المتحدة. وقد أدى استخدام الولايات المتحدة للتعذيب في نفس الفترة تقريبا إلى إعاقة استخدامها لمطار شانون في ايرلندا إحدى نقاط التوقف بالغة الأهمية للطيران العسكري الامريكي العابر للاطلسي.
ووفقا لأحد تسريبات موقع ويكيليكس فإن قطاعات من الشعب الفنلندي كانت ترى أن رؤية الجنود الامريكيين في مطار شانون يجعله رمزا للتواطؤ الايرلندي فيما ترتكبه من ممارسات خاطئة في الشرق الأوسط. وبسبب هذه المخاوف فرضت الحكومة الايرلندية على الطيران العسكري الامريكي إخطارها مسبقا حتى تمنع نقل ضحايا التعذيب عبر الاراضي الايرلندية كما أنها منعت نقل الولايات المتحدة الذخائر لإسرائيل عبر مطار شانون اثناء الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 2006م، ومنعت ايضا نقل المشتبهين عبر هذا المطار حتى لا يكون هناك اي التباس لوضع الأسرى القانوني.
كشفت الدراسة أن المعاملة السيئة للجنود الأمريكيين في «أبو غريب» بالعراق كونت صورة شريرة عن الولايات المتحدة