قرار مجلس الوزراء الأخير بإجازة فرض الغرامات على المتلاعبين والمهدرين للدقيق الأبيض نرجو أن يكون البداية الجادة لإصلاح الخلل الذي ترتب على دعم الدقيق الأبيض الذي تم إقراره قبل ثلاثين عاما مستهدفا تأمين الخبز «الصامولي والمفرد» للمستهلكين بأسعار مدعومة ثابتة. طبعا كما نعرف أن الدعم غير الذكي يؤدي إلى اختطاف هذا الدعم من غاياته الأساسية ليتجه، مع غياب المتابعة الحكومية، إلى مقتنصي الفرص الاستثمارية. وهذا ما حدث مع دعم الخبز، فقد نشأ على ضفاف هذا الدعم مصانع ومخابز ومتاجر للحلويات والمعجنات محققة هوامش أرباح كبيرة، وبنيت ثروات من هذا الدعم، وكانت الخسارة على المجتمع والحكومة مركبة، خسارة موارد مالية ذهبت في غير مكانها الصحيح، وارتفاع فاتورة علاج أمراض السمنة والسكري. هذا الدعم الذي يتجاوز ثلاثة مليارات ريال هو الذي جعل منتجات الدقيق الأبيض تهدر بصورة مؤسفة، «يقدر الهدر بـ 30 بالمائة»، وفي شوارعنا تضع الجمعيات الخيرية صناديق لاستقبال الفائض من الخبز الأبيض، ويضاف إلى ذلك فائض الأنواع العديدة من المعجنات والحلويات، التي أصبحت حاضرة في البيوت والمكاتب و«غرف المرضى!»، وبحكم انتشار محلات المعجنات والحلويات الواسع في شوارعنا، وتطور أساليب التغليف وتوصيل الطلبات، أصبحت المعجنات والحلويات الاختيار الأسهل للهدايا وجلب المسرّات! تحرك وزارة البيئة والمياه والزراعة لتلافي هذا الخلل خطوة إيجابية تشكر عليها، وقد دعوت، مع آخرين من المختصين منذ سنوات، إلى ضرورة مراجعة هذا الخلل الذي يأخذ مجتمعنا إلى منحى خطير لتطور الأمراض المزمنة. كجهة محايدة، يضع الاتحاد العالمي لمرض السكري المملكة في المركز السابع عالمياً في نسبة الإصابة به، وفي تقديرهم يهدد المرض أكثر من 20% من السكان. أيضا السكري يعد العامل الرئيس لحالات بتر الأعضاء في المملكة، ووصل عدد حالات البتر في العام الماضي إلى 4670 حالة، «في الشرقيه 1447»، وطبعا هناك تبعات مالية واجتماعية ونفسية تترتب على بتر الأعضاء، وهي تكلفة غير منظورة. ودخلت على خارطة الأمراض المترتبة على السكريات والنشويات علاجات السمنة وجراحات قَص المعدة أو ربطها، ولهذه أيضا تكلفتها الكبيرة. في السنوات الماضية خسرنا الكثير بسبب سياسات دعم الدقيق الأبيض، والفرق الفنية التي درست تخصيص صوامع الغلال وجدت أن تثبيت الأسعار والدعم لن يؤدي إلى نجاح التخصيص، وهكذا تأخر المشروع. وفي تقصي آثار الدعم وجدت الفرق الفنية انحرافا كبيرا في توجهات الدعم، إذ ذهب إلى غير مستحقيه من الناس البسطاء ممن يشترون خبز «الصامولي والمفرد».. لقد ذهب الدعم إلى مصانع المكرونة والإندومي والحلويات، وربما نرحب بهذا الانحراف لو كانت هوامش الأرباح معقولة، ولكن الذين اطلعوا على مدخلات الإنتاج في هذه الصناعات يتحدثون عن هوامش أرباح كبيرة جدا. طبقا لأحد المستشارين الذين عملوا على مشروع تخصيص الصوامع الدكتور عمر الريس والذي يقدر أن الفاقد في مشروع دعم الدقيق يصل إلى «رقم فلكي»، ويرى أن الدعم تم استغلاله سلبيا. يقول: «كان الهدف من الدعم أن يباع الخبز بريال لحجم 600 جم. لكن أغلب المخابز تبيع 450 جم بريال، وهذا يعني 25% من حجم الخبز طارت بدون وجه حق». ويتساءل: «ماذا قدمت شركات المخابز من مساهمة وطنية بعد كل هذه السنين من الازدهار والرفاهية الماليه؟، لا شيء إيجابي، ما جنيناه أشياء سلبية على المجتمع. حتى برنامج التوعية البسيط لهذه السلعة المبروكة لم يقدم، مثلا، في المدارس». وَمِمَّا لاحظه الدكتور الريس في دراساته لأوضاع إنتاج وتسويق منتجات القمح أن كيس الدقيق الأبيض يباع بما يقارب 22 ريالا لعبوة تزيد على 40 كجم لمصانع «الإندومي» ويتم بها إنتاج أكثر من 700 حبة تباع بريال. يقول الدكتور الريس: «أين المنطق. أتمنى أن يتم استيعاب هذا القرار [قرار مجلس الوزراء] بتمعن من قبل مؤسسة الحبوب وكذلك تجار الدقيق والمخابز». لذا، قرار مجلس الوزراء بالتأكيد بني على معطيات وأرقام وتقص ميداني للحقائق قامت به الوزارات المعنية، استهدف تحقيق المصلحة العامة وعدم الإضرار بأي طرف، فالتلاعب بالأسعار والأوزان وانتشار التستر التجاري في صناعة الخبز والمعجنات وانحراف الدعم كنّا نراه قائما عيانا. وأن تأتي قرارات التصحيح متأخرة خير من غيابها ودفنها بالأدراج. ثمة اقتراح معمول به، وهو أن يتم دعم الدقيق الأسمر ومنتجاته، ورفع سعر الدقيق الأبيض، وهنا يكون الدعم الذكي لإبعاد الناس بالتدرج عن الخبز الأبيض وتعويدهم على الخبز الأسمر، وهكذا نحارب العادات الغذائية السيئة على المدى البعيد. الآن مؤسف أن تجد الخبز الأسمر المعزز بالألياف يباع بثمن أقل أو مساوٍ للخبز الأبيض، ويبقى الأسمر الأعلى في رجيع نقاط البيع. هكذا تساعد السياسات الاقتصادية غير الحصيفة على نمو العادات والأنماط السلبية في المجتمع. الآن التخلص من هذه العادات مكلف ومؤلم وهذا متوقع، ولكن تبقى سياسات التصحيح التي تتخذها الحكومة ضرورية والتراجع عنها كارثة، لذا نرجو أن تخلصنا الخطوات الجريئة من هذه العادات السلبية المضرة بصحتنا وباقتصادنا. مشروع الحكومة لتصحيح أوضاع استهلاك الطاقة كان مؤلمًا في البداية، ولكن المعطيات الإيجابية لهذا المشروع تجعلنا الآن نقف جميعا لإنجاحه.