«بيدق ساقط» هم الحوثيون اليوم، وقد بانت أذيال هزيمتهم في أفق اليمن، ليكتب التاريخ أن تلك البلاد قرصنها «سائق رديء» و«مخلوع محروق» في غفلة من أصحابها، أولئك الذين يتصل إليهم وبهم نسب العرب والعروبة.
في سيرة اليمن بلقيس وسبأ، وأمم خلت، لم تنقطع عنها الحضارة إلا بخروج الصُفرِ على قيم البلاد وأهلها، وتحديداً حين أصابت اللوثة بدر الدين الحوثي، الذي لم يقبل أن يكون يمنياً، أو زيدياً، كسائر أبناء جلدته، بل ترفّع عنهم وسب قيمهم وقيم الدولة.
اليمنيون قبائليون بالفطرة، واختاروا العيش في وطنهم ضمن معادلات اجتماعية متفق عليها، ولم يشكل الانتماء الديني والمذهبي علامة فارقة في سيرتهم، رغم أنهم يتوزعون بين «السنة الشافعية» و«الشيعة الزيدية»، وبنسبة 75% و25% على التوالي (وفق تقديرات متداولة)، منهم 2% فقط حوثيون.
#زيديون؟
أما الحوثيون، فقد ظل شأنهم كشأن الزيديين عموماً، حتى بانت علامات اللوثة على زعيمهم بدر الدين، الذي رفض «فتوى تاريخية» أصدرها علماء الزيدية في اليمن، وعلى رأسهم المرجع مجد الدين المؤيدي، تقضي بأن «شرط النسب الهاشمي للإمامة صار غير مقبول، وجاء لظروف تاريخية، وأن الشعب يمكن أن يختار من هو جدير لحكمه دون شرط أن يكون من نسل الحسن أو الحسين (رضي الله عنهما)».
إجماع علماء الزيدية، الذي تزامن مع الوحدة بين شطري اليمن عام 1990، أثار جملة من المنازلات «الفقهية– الشيعية»، إذ سعى بدر الدين إلى تثبيت فوقيته عبر الاستدلال على «شرط النسب» بما نهل من «الشيعة الاثني عشرية»، واسعة الانتشار في إيران.
«الزيدية» تعتبر فرقة شيعية، إلا أنها أقرب ما تكون إلى أهل السنة، فيما تشكل «الاثني عشرية» طرفا نقيضا «عقائديا» مع الزيدية أولاً، والسنة ثانياً، إلا أن بدر الدين الحوثي اختارها، وبعد أن انفض عنه الزيديون فر وعائلته إلى إيران، ليمكث فيها سنوات عدة.
#«نويّة» إيرانية
الحوثي عاد إلى اليمن بـ «فقه متشدد»، عززه بتوظيف الانتماء القبلي عبر اختطاف الحوثيين من سياقهم الزيدي، وإلحاقهم مذهبياً بـ «الاثني عشرية»، وسياسياً بإيران، التي كانت تتطلع إلى «نويّة تنظيمية» في جنوب المشرق العربي.
التأهيل الأولي لتلك «النوية التنظيمية» تلقاه حسين، نجل بدر الدين، الذي قضى عدة سنوات بين إيران ولبنان، فيما تورد المصادر أنه تلقى تدريبات صارمة على يد الحرس الثوري الإيراني وحزب الشيطان (حزب الله) اللبناني، ليعود إلى اليمن ويؤسس «حزب الحق» عام 1990، ويبدأ به صعوده السياسي في المؤسسة اليمنية، وصولاً إلى مقتله عام 2004 في نزاع مسلح مع القوات الحكومية، وليتولى سائقه الشخصي (عبدالملك)، وهو شقيقه أيضاً، زعامة الحوثيين منذ ذلك الحين.
التكوين الحركي للحوثيين، «حزب الحق» لم يكن إلا واجهة سياسية لـ «اتحاد الشباب»، الذي أنشئ عام 1986 بهدف «تأطير ناشئة الطائفة الزيدية» عبر حلقات تعليمية– مذهبية، بيد أن حسين الحوثي أخفق– لعوامل عدة- في تحويله إلى «ذراع إيرانية»، شبيهة بـ «حزب الشيطان» اللبناني، ليوعز إلى شقيقه محمد عام 1992 بتأسيس «منتدى الشباب المؤمن»، الذي تحول عام 1997 إلى حركة سياسية باسم «تنظيم الشباب المؤمن»، ومن ثم صار «جماعة أنصار الشيطان».
#أنصار الشيطان
جماعة «أنصار الشيطان»، التي تولى قيادتها منذ 2004 «عبد الملك» الحوثي، جاءت ضمن منهجية تنظيمية تنسحب عليها قواعد المظلومية والتقية والتمكين، التي أرستها إيران في وجدان جزء من المكوّن الشيعي العربي، واستخدمت معها ذات الطريقة في إلحاقها بـ «المركز الكهنوتي» في قم وطهران، وبما أحالها أخيراً إلى أداة منتجة للمشروع الفارسي في المنطقة.
ثمة نماذج مشابهة لتطور «أنصار الشيطان» الهيكلي يمكن رصدها في المشرق العربي، وكذلك الأمر فيما يتعلق بقيادة هذه النماذج، سواء في العراق وسورية ولبنان، أو في البحرين وفلسطين وغيرها وصولاً إلى نيجيريا، فيما يشكل «حزب الشيطان» اللبناني أنموذجاً يصار إلى اجترار تجربته في مختلف الدول.
وبالعودة إلى «عبدالملك»، الذي تسلم قيادة «أنصار الشيطان» بعد خلاف تنظيمي عميق دار حول أحقية القيادة، تصدى له آنذاك القائد الميداني عبدالله الرزامي، إلا أن الأب الروحي للتنظيم بدر الحق انحاز إلى ولده، رغم أنه لا يمتلك من مؤهلات القيادة سوى انتسابه لعائلة الحوثي، وأنه عمل كسائق ومرافق شخصي (بدي جارد) لشقيقه حسين، وهو ما يعكس خلافاً أيديولوجياً حول مفهوم القيادة، الأمر الممتد من الصراع الفقهي بين «الزيدية» والاثني عشرية المرتبط بالنسب.
#فقه نازي
التكوين الشخصي لـ عبدالملك الحوثي لا يشي بأية ميزات قيادية، باستثناء «فقه النازية» البائد، المتعالي عن سواه، ففي فهمه «اليمن بلد مأزوم» بسبب «حكم عيال الشوارع» (ويقصد هنا الساسة ممن هم من غير النسب الهاشمي)، وخلاص البلاد رهن بعودة هؤلاء إلى الشوارع و«السادة إلى وضعهم الإلهي»، وهو ما يظهر جلياً في قسم عناصره بـ«موالاة من أمر الله بموالاته»، ويتبعونها بـ«سيدي عبدالملك بدر الدين الحوثي».
الظهور الحركي للحوثيين لازمه «شبق» للسلطة، بدا جلياً في الأيام الأخيرة لحسين الحوثي وترافق مع شقيقه «عبدالملك»، ودون الالتفات إلى الأثمان التي تدفعها البلاد من حاضرها ومستقبلها الإنساني أولاً، ومن ثم بناها الفوقية والتحتية وغيرها ثانياً، وهو ما يمكن رصده في سلسلة طويلة من المغامرات والصراعات المسلحة التي شهدها اليمن منذ عام 2002.
«أنصار الشيطان» ممتد أجلها نحو عقد ونصف، وهي الفترة التي ترافقت وأعقبت التحاق بدر الدين ونجله حسين بـ «المركز الكهنوتي» وأذرعه الميليشياوية، والتي أسفرت عن تشكّل «النوية التنظيمية» ليس على صعيد المناصرين فقط، بل في الإعداد والتجهيز العسكري، الذي شهد إشرافاً إيرانياً حثيثاً، أسفر عن تنامي قوة الحركة الحوثية محلياً، وتمكينها من خوض 6 حروب مع القوات الحكومية في عهد المخلوع علي عبدالله صالح.
فحروب المخلوع والحوثيين أثارت عدة استفهامات يمنية وخليجية وعربية ودولية، إذ كيف لمجموعة متمردة أن تخوض صراعاً بهذا الحجم مع قوات حكومية نظامية وعلى مدى نحو عقد من الزمن، وهي استفهامات ظلت رهناً بإجابة واحدة، مفادها أن «إيران توفر للحوثيين الدعم العسكري والمالي»، وهي «إجابة منقوصة» لعجزها عن تقديم «تفسير شامل» للحالة.
روايات القيادات العسكرية، في مرحلة ما بعد المخلوع، كشفت عن إستراتيجية اتبعها النظام تجاه الحوثيين، اعتمدت على عدم إلحاق هزيمة عسكرية كاملة بهم، رغم توافر القدرة على ذلك، وتوظيف الصراع معهم في تبرير «الإخفاق الحكومي» على مختلف الصعد، وكذلك لإدامة أمرين اثنين:
الأول: الدعم الخليجي لليمن، الذي امتد لعدة عقود، وشكل شريان الحياة لنظام المخلوع، الذي تعاني بلاده من محدودية الموارد، وبما يشمل الإبقاء على «بؤرة ساخنة» على حدود المنظومة الخليجية لضمان بقاء الدعم.
الثاني: الحفاظ على البيئة اللازمة لاستمرار منظومة الفساد، التي تمنح المخلوع قدرة الإنفاق على زبانية النظام الحامية والحاضنة له، وبالتالي تمكينه من الاستمرار في السلطة التي يعرف (وفق قوله) بأنه استولى عليها بـ «الخنجر، ولن يغادرها إلا بخنجر»، ومقصده في هذا أن رئاسته بدأت بمقتل سلفه، وزواله لن يكون إلا بمقتله.
#نماذج
الوجه الآخر للحقيقة هو إدراك «المركز الكهنوتي» الإيراني وذراعه اليمنية «أنصار الشيطان» لحاجات المخلوع واستراتيجياته، التي لا تتناقض– نظرياً وعملياً– مع «المشروع الفارسي» في المشرق العربي، فالبيئات الصراعية والفاسدة تلائمه تماماً، ويمكن التدليل على هذا بالنظر إلى الحالات العراقية واللبنانية والسورية وغيرها.
فمثلاً في الحالة اللبنانية استطاع «المشروع الفارسي» تجذير «حزب الشيطان» في ظلال الصراع العربي– الإسرائيلي، مستفيداً من الفوضى الأمنية والعجز المؤسساتي والإخفاق التنموي، وكذلك الحال في العراق ما بعد الرئيس الراحل صدام حسين، إذ شكل الاحتلال الأمريكي والفوضى العارمة لاختطاف البلاد، وينسحب الأمر على سوريا، ولكن ضمن مقاربة مختلفة إلى حد ما، إذ ظل نظام عائلة الأسد حليفاً للمشروع الفارسي، خاصة في ظل سيطرة الطائفة العلوية، وحين تعرض للتهديد الشعبي سارع إلى طلب النجدة الإيرانية.
ولكن، هل شكل الاستقرار، بدلالته الشاملة، عقبة أمام المحاولات الفارسية؟، بالتأكيد نعم، فرغم سعي «المركز الكهنوتي» إلى تجنيد جزء من المكوّن الشيعي لصالحه عبر «التوظيفات الفقهية» المبتدعة، إلا أن «النويّات التنظيمية» ظلت عاجزة عن تحقيق غاياته، كما هو الحال في مملكة البحرين وفلسطين (قطاع غزة) وغيرها.
«التمكين غير المباشر»، الذي حظي به الحوثيون في عهد المخلوع، ورغم الحروب الست بين الطرفين، يعكس «انتهازية ميكافيلية»، إذ قَبِل كلاهما قواعد اللعبة، التي حضرت فيها مصالحهما بقوة، وسعى إلى تحقيق أقصى ما يمكن منها، وحين انتهت انفض سامرهما في اللحظة ذاتها، لكن دون أن يعني هذا وقوع طلاق بائن بينهما.
بيد أن حضور مصلحة الطرفين، في ذلك العداء، غابت عنه تماماً مصلحة الوطن اليمني، الذي لم يشغل لدى أي منهما أية مرتبة على سلم الأولويات، باستثناء تلك الأولوية الزائفة التي تبناها الطرفان في خطابهما الإعلامي.
#قرصنة اليمن
البروز الأكثر فظاظة لأجندة الحوثيين ظهر في عرقلتهم لمختلف الإجراءات الانتقالية في اليمن، وصولاً إلى اتخاذهم قراراً بقرصنة البلاد وإخضاعها بقوة السلاح لسيطرتهم، وهو القرار الذي- على ما يبدو– اتخذه «المركز الكهنوتي» مع توقيع «المبادرة الخليجية»، إذ كانت «المنظومة الخليجية» قد أدركت أن «المشروع الفارسي» متأهب للانقضاض على اليمن، وأن التعاون الإقليمي سيجنب البلاد هذا الشرر والشرور.
ولكن العلامة الفارقة لنوايا الحوثيين ظهرت بعد توقيعهم على مخرجات الحوار الوطني، التي أقرت أواخر يناير 2014، والتي تقضي بنزع السلاح من مختلف الميليشيات اليمنية وحصره بيد الحكومة، بيد أن تنظيم «أنصار الشيطان» رفض تسليم سلاحه، وبادر في فبراير 2014 إلى صراع مسلح مع القوات الحكومية في مدينة عمران (شمال البلاد) واحلتها بعد ستة أشهر (9 يوليو 2014).
لم يمهل الحوثيون وحليفهم اللدود الأطراف اليمنية طويلاً، وسارعوا للنزول إلى العاصمة صنعاء احتجاجاً على زيادة أسعار الوقود، وللمطالبة بإسقاط الحكومة، إلا أن المسلحين احتلوا العاصمة في 21 سبتمبر، واستولوا على المقار الحكومية كافة، وأتبعوا خطوتهم بمواجهات عسكرية في عدة محافظات.
تسلسل الأحداث في اليمن يشي تماماً بنهج «حزب الشيطان» اللبناني حين نشر مسلحيه في لبنان وسيطر على العاصمة بيروت في مايو 2005 على خلفية كشف «كاميرات المراقبة»، مع الاعتراف بوجود فروقات بين الحالتين، إلا أن العقل المخطط بدا واحداً.
#عاصفة الحزم
الحوثيون والمخلوع، بقرصنتهم لليمن، ظنوا أن السلطة في طريقها إليهم، خاصة مع رفضهم إجراء أي حوار وطني مع القوى الوطنية خارج البلاد، ما يعني بالضرورة تعزيزاً لموقفهم التفاوضي، إلا أن طلب السلطات الشرعية، ممثلة بالرئيس هادي، الانتصار لها، والاستجابة السريعة لـ «التحالف العربي»، عبر «عاصفة الحزم»، التي انطلقت فجر الخميس 26 مارس 2015، غيّر من مجرى الأحداث. عملياً، استطاعت «عاصفة الحزم» إحداث تغييرات جوهرية على عدة صعد، إذ أدرك الحوثيون والمخلوع أن ثمة «تبدلا استراتيجيا» في المعالجات الخليجية– العربية للقضايا الطارئة، فالصراع لم يعد شأناً يمنياً محلياً، ليصير مجرد وجود «بؤرة فارسية» في جنوب المشرق العربي هو تهديد للأمن القومي برمته، وهو ما لا يمكن الصمت عليه. وكذلك الأمر حيال ما كان يوصف بـ «حرب الوكالة»، فـ «التبدل الاستراتيجي» وضع الحوثيين والمخلوع، باعتبارهما «وكيلاً» للظهير الكهنوتي ممثلاً بإيران، في مواجهة «النظام العربي»، بقيادة المملكة العربية السعودية، ما يعني أن القوة العربية الوازنة والأكبر دخلت في مواجهة مباشرة مع «المشروع الفارسي».
#تبدل استراتيجي
وينسحب على ذلك «التهديد الخطير» الذي يشكله «التبدل الاستراتيجي» على «المشروع الفارسي» ذاته، إذ تعتبر «عاصفة الحزم» الاختبار الأهم بالنسبة لإيران، التي تعي أن ميزان القوة يميل بشكل كامل لصالح المنظومة الخليجية والنظام العربي حال اتحادها، الأمر الذي لم يتوقعه «المركز الكهنوتي»، وأفرط في توقع عكسه باستمرار «الشتات الرسمي العربي».
وعلي صعيد أوسع، ثمة وعي إقليمي ودولي يتشكل حيال المشهد الجديد في المشرق العربي، فعاصفة الحزم احيت فعلياً الآمال العربية والإسلامية بوجود قوة قادرة على رسم مسارات المستقبل لدولها، بما يلبي طموحاتها، ودون الارتكان إلى الروافع الحليفة.
أمام «التبدل الاستراتيجي»، وما أسفر عنه من «تقدم ميداني» يحرزه «التحالف العربي» و«الشرعية اليمنية»، بات «تحالف الحوثيين والمخلوع» أمام خيارات صعبة، رغم مواصلتهم المراوغة على طاولة المفاوضات التي يقودها المبعوث الأممي إسماعيل ولد الشيخ أحمد، ففي المحصلة يقدمون تنازلات متلاحقة، وإن كانت مجزوءة، بالتزامن مع تراجعهم الميداني، الذي سيقودهم إلى السقوط.
#بيدق ساقط
خيارات «تحالف الشيطان» باتت تنحصر يوماً تلو الآخر، فيما يخشى «المركز الكهنوتي» ضياع ما عَمِل لأجله في اليمن منذ ثلاثة عقود، وعلى الجانب الآخر يتحسس الخطر على تمدده في شمال المشرق العربي، إذ سيشكل النصر في اليمن فاتحة لما بعده.
وعلى الصعيد الداخلي، باتت أجندة الحوثيين مكشوفة تماماً، سواء بالنسبة للأطراف المتمسكة بالشرعية، أو بالنسبة للأطراف الداعمة لـ «أنصار الشيطان»، إذ أدركت جميعها أن مصلحة الوطن اليمني لم تكن على أولويات مرتزقة «المشروع الفارسي» فضلا عن أن الحوثيين أنفسهم ليسوا كلهم ذاك «السائق الرديء» (عبدالملك الحوثي)، فمن بينهم من يدرك عين الحقيقة، ويحمل أجندة ترنو إلى «ربيع يمني» حقيقي يكنس هؤلاء من مستقبل البلاد، فالمخلوع والحوثيون ليسوا إلا «بيدقًا ساقطًا» لا محالة.