في الأسبوع الماضي وبحضور سعادة رئيس مجلس الإدارة وسعادة رئيس التحرير ونخبة من زملاء العمل احتفت جريدة «اليوم» بالزميل عبدالرؤوف الغزال بمناسبة انتهاء فترة عمله في هذه الجريدة العتيدة، التي خرجت أجيالا من الكوادر التحريرية والفنية، التي استفادت منهم اليوم، كما استفادت منهم الصحف الأخرى الذين حتمت عليهم ظروفهم الخاصة الانتقال إليها، فبعد ما يزيد على ثلاثين عاما من العمل في «اليوم»، اختار عبدالرؤوف الغزال الترجل عن صهوة الصحافة بعد أن كان أحد فرسانها الذين اقترنت أسماؤهم بها طوال سنوات، حيث تنقل في أقسام التحرير فيها، وأدى المهمات المناطة به باقتدار وتميز، ولا بد أن نشير هنا إلى أن هذه سنة حميدة تتبعتها «اليوم» لتكريم أبنائها بعد انتهاء فترة عملهم، اعترافا بما قدموه من حرص على هذا العمل، وتقديرا لإبداعهم الذي ميز مسيرتهم العملية، والزميل الغزال من الكتاب الذين شهدت اليوم إبداعاتهم الأدبية الرائعة، في بداية انتمائه للعمل في بلاط صاحبة الجلالة كما يسميها المتفائلون، أو مهنة البحث عن المتاعب كما يسميها المتشائمون، حين ظهر ولعه بالأدب على صفحات «المربد»، وبعده «اليوم الثقافي»، لكن العمل الصحفي والمتابعة الآنية للأحداث، قد صرفاه عن الأدب ليتفرغ للصحافة على حساب موهبته الأدبية، ليجد نفسه في النهاية يبتعد شيئا فشيئا عن التعاطي مع الكتابة الأدبية، لينصرف نهائيا إلى الكتابة الصحفية والمتابعة والإشراف على بعض أقسام الجريدة، ولا شيء يمكن أن يقضي على موهبة الأديب غير الصحافة، حيث تختلف شروط الإبداع الأدبي عن شروط المتابعة الصحفية، فالكتابة الإبداعية تحتاج إلى التأني والمراجعة والتأمل، إلى جانب الأسلوب الأدبي البعيد عن المباشرة والتقريرية، وهي أمور قد لا تحتاجها الكتابة الصحفية بالضرورة، والعاملون في الصحافة يعيشون حالة شديدة التوتر من المتابعة الدؤوبة والمستمرة للأحداث، وهي أمور لا تعني الأديب في إبداعه المتأني ذي الأجواء المتسمة بالهدوء، ومع ذلك فإن عبدالرؤوف الأديب قد القى بظلاله على عبدالرؤوف الصحفي، فهو عندما يكتب لا تخفى إشراقاته الأدبية، وعباراته الرشيقة، وأسلوبه الأنيق، لكن أين هي كتاباته التي كانت تزين صفحات اليوم، ألم أقل إن العمل الصحفي يقضي على الأديب.
وعبدالرؤوف ذو الشخصية الهادئة نراه في كتاباته حادا في طرح قضايا الأدب والإنسان والحياة، وهو من الكتاب الذين يتحمسون جداً لمواضيع كتاباتهم، لكنها الحماسة المتسمة بالصدق، والقدرة على الإقناع، فلا يملك القارئ حيال ذلك سوى الإعجاب برأيه حتى وإن اختلف معه في الرأي، وقد صاحبت كتاباته بدايات ظهور الحداثة، وما اقترن من جدال عنيف بين مؤيد ومعارض.. جدال أثرى الحركة الأدبية في بلادنا بالنقد الأدبي والفكري الجاد، فكان من فريق المؤيدين الذين رأوا في الحداثة ما لم يره الفريق الآخر، لكنه ظل بعيدا عن شخصنة أي موضوع يريد الكتابة عنه. ولعل من أبرز ملامح شخصيته أنه لم يدخل في خصومة أدبية أو غير أدبية مع أحد، فظل صديق الجميع، بين رؤسائه ومرؤوسيه، وهي صفة زادت شخصيته قربا من الناس، على مستوى الحياة العامة.
من يعرف عبدالرؤوف الغزال يعرف فيه حبه للخير والحق والجمال، ووفاءه لأصدقائه، واعترافه الجميل بأي رأي وإن اختلف معه، إلى جانب اعترافه بفضل من سبقوه في العمل الصحفي وتعلم منهم، وكذلك حرصة على متابعة المستجدات في الساحة الثقافية محليا وعربيا، وهو قارئ جاد، وإن كان العمل الصحفي قد شغله عن الكتابة، فهو لم يشغله حتما عن القراءة، باعتبارها زاد المثقف، ونافذة إطلالته على كل جديد في عالم الثقافة، وهو من الذين يتبسطون في أحاديثهم بعيدا عن الحذلقة الكلامية، والغطرسة الثقافية إن صح التعبير.
أما وقد ترجل عن صهوة العمل الصحفي، فحري به أن يتفرغ للكتابة الأدبية، وتحديدا في مجال النقد الأدبي، وله في هذا المجال مبادرات تتسم بالعمق والتحليل وصولا إلى النتائج الجادة الأكثر جذبا لاهتمام المتلقي، وهو الذي بدأ أديبا، فلا غرابة أن يعود إلى قلعة الأدب من جديد، وهي قلعة لن تكون من القلاع العاجية كما يقال عنها والتي تفصل الأديب عن الحياة، بل من القلاع المتفاعلة من نبض الحياة، وما يعتمل فيها من متناقضات، وما يمور فيها من أحداث، في إطار إبداعي جميل، وهو بصمته الصاخب قادر على ذلك وأكثر.