ضيف ملحق آفاق الشريعة هذا اليوم من مواليد محافظة بقيق، ويسكن الآن مدينة الدمام، نشأ وترعرع ودرس المرحلة الابتدائية والمتوسطة والثانوية فيها، وحصل على البكالوريوس من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، وواصل تعليمه وحصل على درجة الماجستير في تخصص الفقه، وكان عنوان أطروحته الإعاقة في باب النكاح وأحكامها، بعدها حصل على درجة الدكتوراة في الفقه المقارن، وكان موضوعها في أحكام المعوقين في الشرعية الإسلامية، وعمل في عدة جهات خيرية وتطوعية في بلادنا حفظ الله علينا أمننا وولاة أمرنا من كل سوء، نرحب بالشيخ الدكتور عبدالعزيز الطويرش.
- سبب اهتمامكم بقضايا الإعاقة، وكيف تقرأ واقع التعامل معها؟
- منَّ الله عليَّ بأن عملت متعاونًا في الجمعية الخيرية لرعاية وتأهيل المعوقين بالمنطقة الشرقية في وحدة المعونات والزكاة خلال الفترة 1419-1427هـ، وهي وحدة تعنى بتقديم الخدمات لذوي الاحتياجات الخاصة ممن تنطبق عليهم الضوابط في صرف المستحقات المالية والعينية من تأمين الأطراف الصناعية والأجهزة التعويضية والمعينات السمعية والكراسي المتحركة والتأهيل وغيرها. وهذا جعلني على اتصال مباشر بواقع المعوقين ومعاناتهم وظروفهم المعيشية وأحوالهم خصوصا فيما يتعلق بأحكام العبادات ومسائل النكاح وما يتعلق بها من مسائل فرعية، وما يرد لي من الإشكالات التي تعرض لهذه الفئة الغالية على قلوبنا فيما يتعلق بالأحكام الشرعية والأحوال الشخصية.
وكنت في يوم من الأيام، أتساءل: هل الإسلام أولى رعاية بهذه الفئة؟ هل لهم أحكام شرعية وعناية فقهية؟ فاتجهت نفسي أن أنظر في كتب الفقه بدءًا من كتاب الطهارة حتى الحدود، فوجدت العجب من عناية الشريعة بهذه الفئة وتفصيل الفقهاء لأحكامهم بعناية بالغة. فوجدت أن كتب الفقه الإسلامي لم تهمل هذه الفئة من المجتمع، إنما عالجت وبدقة كيف تكون عباداتهم بما لا يُخل بالشرع ولا يهمل عجزهم، كما عالجت الشريعة طرق معاملتهم في حالة عجزهم عن ذلك وكيفية أنكحتهم وطلاقهم وخلعهم ولعانهم وما يختص بهم من أحوال شخصية.
الشيخ د. الطويرش يتحدث لـ«اليوم»
- رسالتك في الماجستير والدكتوراة عن ملف الإعاقة والأحكام الشرعية المترتبة عليها، كيف تناول الفقهاء هذه الموضوعات، وما مظانها في كتب الفقه؟
- بفضل من الله وتيسير من عنده كانت أطروحتي لنيل درجة الماجستير في الفقه بعنوان «الإعاقة ذات الصلة بباب النكاح وأحكامها».
وكانت رسالتي في الدكتوراة عن أحكام المعوقين في الشريعة الإسلامية «الإعاقة الحسية والحركية والعقلية وأثرها في أحكام العبادات وفقه الأسرة». وأردت أن أجعل من هذه الرسالة عزاء وسلوى لكل مصاب، وبيانًا لأهم الأحكام الفقهية المتعلقة به وبأهله ومن يكفله ويرعاه ويقوم على شأنه، وبيان حقوقهم على المسلمين ومشاركة الصابرين في صبرهم وحزنهم، وتسلية المصابين في مصابهم أجر وتعليمهم أحكام دينهم أجر، واسأل الله أن يجمع لي هذا كله بفضل منه ورحمة.
فاتجهت نفسي أن أعد في هذا بحثًا أبين فيه منهج الإسلام في الإعاقة ونظرته إليها، كما أبين فيه بعض الأحكام الفقهية، وأقوال الفقهاء فيها وأدلتهم، كما أبين فيه أنواع الإعاقة وأحكامها، لكونها أحد الابتلاءات، ونظرًا لانتشارها في مجتمعاتنا حيث بلغت نسبة الإعاقة في البلدان النامية أكثر من 10% من السكان حسبما أعلنته منظمة الصحة العالمية، وقد أظهرت الإحصائيات الأخيرة أن نسبة الإعاقة في المملكة العربية السعودية عام 2000م هي 6.3% وأن عدد الأطفال المعوقين في المملكة العربية السعودية تجاوز المليون، وهذه الأعداد أصبحت تشكل مشكلة اجتماعية، ولما كانت هذه الأرقام كبيرة ومخيفة، كان لزامًا على ذوي العلاقة - خاصة أصحاب الدراسات والبحوث- الوقوف على أسبابها ودواعيها وآثارها وكيفية علاجها والحد منها.
ولما كان الأمر كذلك فقد ارتأيت أن أكتب في هذا الموضوع فتم بحمد الله، سائلا الله أن يلهمني الصواب والرشاد فيما أقصد، وأن يجعل عملي خالصًا لوجهه الكريم، إنه سبحانه وتعالى من وراء القصد محيط. فنجد أن كتب الفقه الإسلامي لم تهمل هذه الفئة من المجتمع، إنما عالجت وبدقة كيف تكون عباداتهم بما لا يخل بالشرع ولا يهمل عجزهم، كما عالجت الشريعة طرق معاملتهم في حالة عجزهم عن ذلك وكيفية أنكحتهم وطلاقهم وخلعهم ولعانهم وما يختص بهم من أحوال شخصية.
- كيف لامست الشريعة هذا النقص وكيف عالجته؟
- إن الشريعة الإسلامية الغراء قد تكفلت بإعطاء ذوي الإعاقة ما يعوض عجزهم من بدائل تقوم مقام ما عجزوا عنه، فالأخرس حرم النطق، فعوضته الشريعة بأن جعلت الإشارة منه تقوم مقام العبارة، والأعمى فقد البصر، فعوضته الشريعة بأن جعلت سمعه ولمسه قائمًا مقام بصره، والمقعد عاجز عن المشي، فعوضته الشريعة بأن جعلت المركوب في حقه يقوم مقام قدميه.
فالإسلام في موقفه من الإعاقة لا يرى أن فقدان عضو هو بالضرورة فقدان للوظيفة الاجتماعية بالكامل قال تعالى (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور).
وقد أكد العلم اليوم أنه في حال فقدان أو عطب عضو أو جزء ما في الجسد، يقوم بوظيفته جزء آخر مثل: إذا تعطلت الكلية في الجسد، ضاعفت الكلية الأخرى عملها كبديل عن المعطوبة، فإذا تعطلت حاسة البصر قويت حاسة السمع فالله يعوض عن فقدان إحدى الحواس أو الأعضاء بحاسة أو عضو آخر. والشريعة الإسلامية رغم أنها تطالب المؤمن بأن يكون قويًا إلا أنها لم تهمل الضعيف فأكدت أن في كل منهما خيرا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير. فالقوي خير من الضعيف إلا أن الشريعة الإسلامية لا تنظر إلى الإنسان معوقًا أو غير معوق من خلال فقدان عضو أو قدرة بل نظرة شمولية متكاملة وقائية متسقة، تضع في الاعتبار الأول، تأدية المرء لوظائفه ومسؤولياته ضمن التصور الإسلامي الكلي، وإن الإسلام يقيس الإعاقة بأبعادها الذاتية والاجتماعية معًا، فكل فرد في المجتمع مطالب بمسؤوليات ووظائف تتفق مع طبيعته في الصورة الكلية، وتختلف عن سواها تمامًا، كما هو الحال في مطالبة المرأة بمسؤوليات ووظائف تختلف عن الرجل.
- هل لدينا في الشريعة علماء كانوا يعانون إعاقة ولكن تغلبوا عليها؟ اذكر لنا بعضهم.
- هناك علماء بارزون منهم قديمًا وحديثًا وكان لهم أثرهم الكبير، ولم يضرهم أنهم من هذه الفئة مثل:
عمرو بن الجموح الصحابي المجاهد وهو شريف قبيلة بني سلمة وكان يعاني منذ مولده عرجا شديدا بساقه اليمنى وهو سيد من سادات العرب، وقد خاض معركتَي بدر وأحد رغم ما يعانيه من عرج شديد قال عنه عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده إن منكم من لو أقسم على الله لأبره، منهم عمرو بن الجموح ولقد رأيته يطأ الجنة بعرجته). الأحنف بن قيس وهو من أشهر الخطباء والحكماء والقادة العرب ولقب بالأحنف لوجود حنف في رجليه (أي اعوجاج) حيث إنه ولد ملتصق الفخذين فشق ما بينهما، وهو أعرج أعور وهو قصير القامة صغير الرأس إلا أنه كان يجمع خصال السيادة والشرف من حكمة وحلم وحزم ومروءة وثقة بالنفس وطلاقة لسان. سليمان بن عبدالملك ولد سنة 60 هـ، تولى الخلافة وهو أعرج وكان عادلا صالحًا مجاهدًا له أعمال قربته إلى قلوب الناس وتصدى للحجاج وأعوانه وعزلهم. الإمام الترمذي -يرحمه الله - من علماء السنة والحديث فقد كان يضرب به المثل في الحفظ والضبط مع أنه أعمى. أبو الأسود الدؤلي -يرحمه الله - من سادات التابعين وهو من وضع علم النحو وأصبح قاضيًا للبصرة وقاتل مع علي بن أبي طالب في صفين مع أنه أعرج. عطاء بن أبي رباح العالم الفقيه وكان شديد العرج وفقد إحدى عينيه في صغره وهو مفتي مكة وكان فقيهًا عالمًا محدثًا. إمام العصر الحاضر سماحة الوالد العلامة الشيخ عبدالعزيز بن باز -يرحمه الله- تولى رئاسة هيئة كبار العلماء وإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد في المملكة العربية السعودية مع أنه أعمى وهذا يؤكد أن العمى الحقيقي هو عمى القلب والبصيرة وليس عمى العين والبصر.
- كيف لنا أن نصنع علماء مشاهير من ذوي الاحتياجات الخاصة؟
- إن أهم الحوافز التي تدفع المعاق إلى الإبداع والتفرد هو الأثر الذي يتركه المعاق المبدع أو المعاق الرمز في نفوس المعوقين، فهو النموذج والقدوة بكل ما يحمله هذا التعبير من معنى.
وتاريخنا العربي والإسلامي مليء بهؤلاء المبدعين من المعاقين الذين سطروا أسماءهم في تاريخ الأمة، بل صاروا هم تاريخها وحضارتها، إذ منهم الصحابي والفقيه والقائد والعالم والحكيم والشاعر والطبيب أمثال: معاذ بن جبل وجرير بن عبدالله وعمرو بن الجموح وأبان بن عثمان والأحنف بن قيس، والترمذي ومحمد بن سيرين وابن سيدة الأندلسي وداوود الأنطاكي وحسان بن ثابت والأعشى وبشار بن برد والأعمى التطيلي وأبو العلاء المعري والحصري وعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين.
- كيف ترى تعامل المجتمع مع ذوي الاحتياجات الخاصة؟ وهل ترى أن حقوقهم الحالية تكفي؟ سواء المطبقة أو المعلنة في الأنظمة؟
- إن المتأمل في بلادنا المملكة العربية السعودية يرى ان نظام رعاية المعوقين الذي صدر بموجب المرسوم الملكي رقم (م/37) في 23/ 9 /1421هـ، القاضي بالموافقة على قرار مجلس الوزراء الصادر برقم (244) في 14/ 9 /1421هـ الخاص بإقرار النظام يعد تتويجًا لكافة الجهود الرائدة في رعاية المعوقين وتأهيلهم في المجالات كافة.
فحرصت القيادة الرشيدة على كفالة حقوق المعوق في الوقاية والرعاية والتأهيل وحث جميع الوزارات المختصة على الاهتمام بذلك، كما شجعت المؤسسات والأفراد على الإسهام في الأعمال الخيرية في مجال الإعاقة، فأقيمت الجمعيات الخيرية والنوادي الأهلية الخاصة بهم، فقد أعطت ومازالت تعطي حكومتنا الرشيدة بكل ما أوتيت من إمكانات لدعم المعوقين بكل السبل ماديًا ومعنويًا، وتشريع القوانين والأنظمة من أجل تسهيل عملهم والرفق بحالهم، أما من ناحية الأفراد فيوجد بعض التقصير في فهم حقوق المعوقين في التعامل وخصوصًا في الأماكن العامة أو حتى على المستوى الأسري. مأذون الأنكحة لا يكاد يخلو من مواقف وقصص، ما أبرز نصيحة للشباب المقبلين على الزواج؟
- لعلي أختزل ذلك في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله - عز وجل - خيرًا له من زوجة صالحة إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله» رواه ابن ماجه.
- لماذ ترتفع نسب الطلاق في أول سنة للزواج؟
- غياب الوعي بين الطرفين بالحقوق لكل منهما وعليهما والمشتركة بينهما، وغياب مفهوم الحياة الزوجية، وتغليب جانب المتعة والأنس على المعنى الحقيقي للزواج. وعدم تحمل المسؤولية بين الطرفين.
- هل من مواقف مضيئة أو غريبة خلال ممارستكم عقود النكاح؟
- لعلي في هذا المقام أذكر بعض المواقف:
الأول: دعاني رجل من جيراني لإجراء عقد نكاح في حينا الذي أسكن فيه وعندما ذهبت معه للمنزل أدخلني للمجلس ثم انصرف فدخلت وسلمت على الحاضرين ولم يرد علي أحد وصافحت الموجودين ولا أحد ينطق بكلمة واحدة فأوجست في نفسي ريبة، لا أعلم ماذا جرى أين الذي دعاني وهؤلاء لا يردون علي السلام ولا يتكلمون معي!!
وإذ ألمح أحدهم يشير إلى أحد الحاضرين في المجلس بلغة الإشارة وفهمت معناها لأني قد تعلمت لغة الإشارة ولا تزال لدي معرفة بها وتبادلت الحديث وإذ أتفاجأ بأن الزوج أصم والولي أصم والزوجة صماء، ويسر الله لي إجراء العقد لهم.
الموقف الثاني: عقد لامرأة بلغت من العمر 83 سنة ولم يسبق لها الزواج.
وموقف آخر: عقد لامرأة بلغت من العمر 63 سنة وعندما سألت من هو وليها فإذا به ابنها ويبلغ من العمر 50 سنة وهو جد، وعندما سألت عن حالها هل هي مطلقة أم أرملة فقالوا إنها أرملة وأخرجوا لي أربعة صكوك حصر ورثة للأزواج السابقين.... فلله الأمر من قبل ومن بعد.
- لكم علاقة قوية ببعض المشايخ في المنطقة الشرقية منهم الشيخ د. فؤاد بن محمد الماجد رحمه الله، من أين انطلقت وما المواقف الخالدة في ذهنك؟
- بداية فإنني أسأل الله أن يسكن شيخي الفاضل د. فؤاد بن محمد الماجد فسيح جناته ولا أظن أنني في هذ اللقاء أوفي حقه فهو علم على رأسه نار رجل في أمة بل أمة في رجل منه استقيت العلم والحلم والأدب والخلق الرفيع والغيرة على المحارم والذب عن الدين والحرص على نفع الآخرين، التقيت به قبل عقدين ونصف من الزمن في محكمة القطيف وكان رئيسًا لها آنذاك حيث قدمت أوراقي لكي أكون مأذونًا للأنكحة فيها فقد بادرني بأربعة أسئلة سريعة فسألني من هو الولي الأقرب للمرأة ومتى يعدل عنه وما أركان النكاح وشروطه. ففتح الله علي جوابًا عليها. فقال لا بأس، فقال لي: اذهب واقرأ مكنسة الحنابلة في الفقه يعنى كتاب «كشاف القناع» ثم إذا انتهيت ائتني فأتيته بعد شهر كامل وقد قرأت باب النكاح والطلاق ثم اختبرني وأعطاني قرابة 40 سؤالا مكتوبًا وطلب مني أن أجيب عنها وعند الانتهاء منها آتي إليه وبعد الانتهاء منها أجازني وسمح لي بإجراء العقود، فلله دره كم هو حريص على انتقاء من يثق فيهم لكي يتولوا مثل هذه الأمور وخصوصًا في أمور النكاح، والله تعالى يقول «ولقد أخذنا منكم ميثاقًا غليظًا»، فتطور الأمر والعلاقة مع الشيخ حتى صرت له الأخ الأصغر فارتويت منه الإحسان وصدق التعامل وحب مساعدة الآخرين والبذل لخدمة الدين، وقد رحل عن هذه الحياة الدنيا وقد خلف ذكرا عاليًا وصدى مسموعًا وآثارًا مباركة عليه رحمة الله، وقد قدم لي فضيلته كتابي المطبوع الإعاقة الحسية والحركية والعقلية وأثرها في أحكام العبادات وفقه الأسرة، فجزاه الله عني خير الجزاء وأسكنه فسيح جناته مع الأنبياء والصديقين والشهداء.