يحضر الفقه الإيراني، وتحديداً فقه «آيات الشيطان»، بقوة في التأثيث القانوني لـ «الحشد الشعبي»، الذي يؤسس لـ «غياب الدولة الوطنية» في العراق أولاً، وليس آخراً، فآيات «تصدير الثورة» لا تعير بالاً لـ «الكينونة» المرتقبة طالما أنها قادرة على توجيهها في سياق مشروعها للهيمنة. ويقضي اتخاذ ميليشيات «الحشد الشعبي» صفة قانونية، وفق قيادات عراقية استطلعتها «اليوم» في العراق والأردن، على حلم الدولة الوطنية، الذي خاض العراقيون مخاضه منذ الاحتلال الأمريكي لبلادهم عام 2003، فيما سعت إيران إلى اختطاف البلاد من سياقها الوطني والعروبي، والزج بها في أتون صراع مركب، تماشى - ابتداء - مع المقاربة الأمريكية، وبتوظيفها - تالياً - ضمن مقاربته الفارسية. «شرعنة» العصابات ويرى أمين عام مجلس عشائر الثورة العراقية الشيخ يحيى السنبل، وهو قيادي بارز في عشائر محافظة الأنبار (غرب العراق)، أن «قانون الحشد الشعبي (الطائفي) قضى عمليا على أسس الدولة المدنية في العراق، التي خدع بها الأمريكيون العالم حين احتلال البلاد في 2003». وبين السنبل، في حديث لـ«اليوم» عبر الهاتف، أن «إقرار القانون أحال العراق إلى دولة ميليشياوية طائفية، تسعى لفرض رؤية فئوية واحده، وفي الوقت ذاته شرعن هذه المليشيات والمجاميع المسلحة، المتهمة بارتكاب جرائم يعاقب عليها القانون، وبرّأها من أعمالها الإجرامية». ويتفق الخبير والباحث المتخصص في الشأن العراقي الشيخ عبد القادر النايل مع ما ذهب إليه السنبل، وقال: إن «قانون الحشد الشعبي وجه ضربة قاصمة لمحددات العملية السياسية، التي وضعتها الإدارة الأمريكية بعد احتلال عام 2003 لتنظيم الشراكة السياسية بين المكونات العراقية وفق نسب حددتها وثيقة بول بريمر أثناء تشكيل مجلس الحكم، ووقعت عليها أطراف سنية غير مخوّلة». وأشار النايل، في حديث لـ«اليوم» عبر الهاتف، أن «العملية السياسية في العراق أسست لدولة المكونات الطائفية والإثنية، وليس للدولة الوطنية المأمولة، ليطيح - أخيراً - إقرار القانون بمبدأ التوافق السياسي بن مكونات العملية». وينفي رئيس حركة التصحيح الوطني العراقية د. كامل الدليمي، وهو نائب سابق وعضو لجنة المساءلة والعدالة البرلمانية، أن يكون الحكم في العراق بعبر عن صيغة من التوافق الوطني. يقول د. الدليمي، في اتصال هاتفي مع «اليوم»: إن «الحكم في العراقي أحادي الجانب، ولا وجود فيه لأي شراكة وطنية مبنية على أساس الحفاظ على وحدة الوطن وحماية أمن المواطن، فيما جاء قانون الحشد الشعبي لتكريس هذه الحقيقة». الدور الإيراني الحس الطائفي نما عملياً كهوية مشوهة بعد احتلال العراق مباشرة، ويرى الشيخ النايل أنه جاء ضمن «توافق إيراني-أمريكي» لعراق ما بعد الرئيس الراحل صدام حسين. ويضيف النايل: «العراق بعد الاحتلال أصبح ساحة مفتوحة للنفوذ الإيراني، وبرضاء أمريكي، ما أتاح هيمنة إيران على مجمل تفصيلات المشهد السياسي والاقتصادي والعسكري في البلاد، بينما أسهمت السياسات الانسحابية للإدارة الأمريكية بقيادة باراك أوباما في تعزيز أطماع إيران، ليس في العراق وحده، بل في مختلف مناطق المشرق العربي». ويشير النايل أن «اليوميات الإيرانية في العراق تظهر بشكل جلي حقيقة المشروع الفارسي، الساعي إلى السيطرة على المنطقة بتطويفها، وأحالتها إلى نماذج مشابهة لنموذج الحرس الثوري الإيراني، الذي يقرصن عمليا الدولة ويخضعها لسيطرته». القيادي العراقي يحيى السنبل يرى أن «ميليشيات الحشد الشعبي تخضع عمليا لتوجيهات الولي الفقيه في طهران، وتأتمر بأوامر ممثله قائد فيلق القدس قاسم سليماني، وهو ما تعترف به قيادات هذه الميليشيات بشكل صريح». إدارة عراقية؟ في ظل هذه المعطيات، استبعد د. كامل الدليمي أن تكون الحكومة العراقية، التي يقودها حيدر العبادي، قادرة على ضبط إيقاع ميليشيات الحشد، وقال:إن «الحكومة ستكون عاجزة عن السيطرة على حشود عقائدية». ويرى الدليمي أن «الميليشيات ستظل عصية على الإدارة الحكومية، لسببين اثنين، الأول أنها جاءت تلبية لأمر عقائدي أصدرته المرجعية الشيعية، والثاني أنها صاحبة الفضل في حماية السلطة القائمة ورجالاتها، إذ استطاعت أن توقف انهيارها التام». فيما يقول الشيخ النايل: «قادة الميليشيات يوالون إيران علانية، ويرفعون في مقراتهم صور المرشد خامنئي، ويعلنون خضوعهم الكامل لتوجيهاته، هذا فضلا عن إمساك الحرس الثوري الإيراني بشريان التسليح والتدريب لها». المكوّن السنيّ - الوطني المكوّن السنيً والوطني في العراق، وأمام حقيقة تبعية الميليشيات لإيران، يقف عاجزاً أمام هذه المعضلة، التي يدرك أنها ستكون أداة جديدة للقضاء على مستقبله الوطني، خاصة في ظل «تجريدهم المنظم من القدرة على المقاومة»، وفق قول السنبل. ويرى الشيخ يحيى السنبل، أن «الاحتلال الأمريكي والحكومات الطائفية المتعاقبة جرّدت الوطنيين العراقيين وأهل السنة من مقومات المواجهة». ويلفت السنبل إلى «فقدان الوطنيين العراقيين وأهل السنة لمقومات البقاء في وطنهم بعد أن قتّلوا وهجّروا ودمرت مدنهم ومنشآتهم، وأفقدوا كل أسباب الحياة، فيما يعانون في سبيل لقمة العيش لأبنائهم». ويضيف د. كامل الدليمي إلى ذلك أن «أهل السنة في العراق مسلوبي الإرادة، فيما تعجز قياداتهم الحالية عن الاضطلاع بدورها الوطني». ويشير الشيخ عبد القادر النايل أن «الاثمان الباهضة التي دفعها أهل السنة لا تنفي أنهم رقم صعب في المعادلة الوطنية العراقية». ويرى النايل أن «إعادة العراق إلى نصابه الوطني تستدعي ابتداء التوقف عن توجيه الاتهامات الباطلة إلى أهل السنة بأنهم يشكلون حواضن لتنظيمات إرهابية، وهي اتهامات ألصقت تهمة الإرهاب بهم وأحالتهم إلى خصم في مواجهة قوى إقليمية ودولية». تداعيات «قوننة الحشد» يقول الشيخ يحيى السنبل أن «قوننة الحشد الشعبي وشرعنة وجوده ستكون لها تداعيات كبرى على العراق والمنطقة، خاصة في ظل القانون الجديد الذي يمنح إيران هيمنة كاملة على العراق تحقق لها جزءا كبيرا من الخطة الخمسينية لثورة الخميني». ويؤسس القانون الجديد، وفق الشيخ النايل، لـ «شرعنة تدخلات الميليشيات في دول الجوار، وهو ما يحقق الهدف الإيراني الاستراتيجي». ويرى النايل أن «هدف إيران الاستراتيجي هو شق طريق بري من تلعفر في محافظة نينوى (شمال العراق) باتجاه سوريا عبر نهر دجلة، وذلك لربط الموصل وحلب السورية تحت حكم ميليشاوي، وإعادة رسم المدن جغرافيا وديموغرافيا، خاصة أن مدينة تلعفر تضم مطاراً يمكّن إيران من نقل مرتزقتها والسلاح عبر الجو إلى سوريا ولبنان». مشروع عربي ويشير د. كامل الدليمي أن «أرض العراق تشهد حربا إقليمية - دولية، فيما تغيب عن المشهد القوى العربية، وهو ما يجعل البلاد فريسة سهلة للإيرانيين، وهو ما يقود إلى ضرورة مواجهة المشروع الفارسي ضمن رؤية إستراتيجية عربية، تستهدف تدعيم الأمن القومي العربي عبر آليات عمل واضحة تحد من التدخل الايراني». ومن جهته، يشير الشيخ السنبل إلى «حقيقة أن العراقيين هم رأس الحربة في المواجهة مع المشروع الفارسي، فيما يشكل الاسناد القومي والإسلامي لهم الدعامة». ويلفت السنبل إلى «تجارب تاريخية في مواجهة المشروع الفارسي، استطاع خلالها العراقيون وبدعم عربي من إحباط مخططات إيران وإلحاق هزيمة نكراء بها، وتجريع الخميني كأس السم في الحرب العراقية - الإيرانية، فيما كانت مدن إيران وقراها تحت رحمة العراقيين». ويتفق الشيخ النايل مع ما ذهب اله الدليمي والسنبل، ويقول «نمتلك سبلاً كثيرة لمواجهة المد الفارسي، ويرى النايل بضرورة«توظيف الإمكانات العربية في دعم المقاومة الأحوازية العربية، وكذلك دعم جمهورية مهاباد الكردية، التي تحتلها إيران وتمارس فيها أبشع جرائم الاعدام والقتل والتضييق».