لا يمكن قراءة الموقف الأمريكي الأخير في مجلس الأمن في الامتناع عن التصويت على قرارالمجلس بخصوص المستوطنات الإسرائيلية بدون ملاحظة المشهد الأمريكي من الداخل، وهو مشهد ينتظر الجديد مع الرئاسة الجديدة بقيادة دونالد ترامب والذي وعد الجميع بأن الأمم المتحدة مقبلة على تغيير بعد تنصيبه رئيساً.
حين يُقر الرئيس أوباما بأن لدى العرب مشاكلهم التاريخية الموروثة منذ قرون وأنه لا يستطيع التدخل بها، فإنه من غير المعقول الانتظار بأن يأتي الرئيس أوباما بجديد لحل مشاكل العرب وانهاء أزماتهم، التي لم تكن من صناعتهم وحدهم، بقدر ما كانت نتيجة لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية والغرب في المنطقة، والتي غطت الشرق الأوسط وأغرقته بالمزيد من الفوضى والارتباك. واستمرت على ترددها منذ بدأ أوباما مهامه، وترك العراق يغرق في الفوضى بعد سحب الجيش الامريكي منه، وانتظر طويلاً في سوريا وسلمها على طبق من ذهب لنظيره الروسي فلاديمير بوتين.
أوباما، يرحل هذا العام بعد أن وضع الرئاسة الأمريكية في أضعف حالتها، وجعل الولايات المتحدة تهتم أكثر بالداخل وأخرجها من أزمة اقتصادية رافقت ولايته الأولى، ولكنه اليوم يتركها دون أن تعيد فرض قوتها على العالم بل تتنازل عنها وتضع العالم بيد روسيا أو على الأقل تترك الشرق الأوسط للدب الروسي يصول ويجول به كما يحب ويشاء.
في الاجتماع السنوي لمنتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ (أبيك) والذي عقد في منتصف شهر نوفمبر في عاصمة البيرو مدينة ليما، التقى الرئيس أوباما الرئيس الروسي بوتين لمدة خمس دقائق، تحدثا عن الوضع السوري والحالة في أوكرانيا، وهو ما يعني أن الملف الأهم في المنطقة العربية لم يشغل الكثير من اهتمام أوباما، الذي وجد في كل مرة أن الرئيس بوتين متشبث بحقوق روسيا في حسم هذا الملف، ولم يأت من التدخل الروسي فيه إلا المزيد من التعقيد والدمار وإراقة الدماء وتحييد دور الولايات المتحدة في انهاء الصراع.
أقل من شهر ويغادر الرئيس أوباما السياسة الدولية، وقد يعود مدرسا للحقوق في جامعة هارفرد أو كولومبيا، أو يرأس جمعية خيرية أو يؤسس مؤسسة أو يدعى لالقاء الكلمات المدفوعة مسبقاً في المؤتمرات العالمية كما سلفه بيل كلنتون، لكن بالتأكيد لن تعلق صورته كرئيس عظيم للولايات المتحدة أمثال ودرو ولسون وجورج واشنطن أو ابراهام لينكلون أو فرانكلين روزفلت، ذلك أن سمته كانت في الخارج التردد، وامريكا مهما كانت ناجاحات رؤسائها في الداخل إلا أن صورتها الخارجية أكثر أهمية.
ليست سياسة أوباما في البيت الأبيض معزولة عن ظروف النظام الدولي، وتحولاته وتعقيداته، وظهور فاعلين مؤثرين إلى جانب الروس وهم الصينيون، وهي حالة تقود إلى نظام عالمي جديد بعد حقبة أوباما، وتمهد إلى حالة دولية جديدة متعددة الأقطاب بعد أن هيمنت الولايات المتحدة كقطب أوحد على العالم منذ العام 1990.
خلال حقبة أوباما انتقلت الولايات المتحدة من مواجهة طالبان والقاعدة إلى مواجهة داعش، ومهادنة إيران، اللاعب المشترك من كل هذه التطرفات، وفي عهد بوتين انتقلت روسيا من دولة محبطة مثقلة بالمافيا، إلى دولة مؤثرة وحاسمة في ملفات الإقليم والعالم.
خسرت الولايات المتحدة في عهد اوباما سفيرها في ليبيا جي كريستوفر ستيفنز بهجوم على مقر البعثة الأمريكية في بنغازي عام 2012، وكانت خسارة فادحة وضربة موجعة للبيت الأبيض، وخسرت روسيا سفيرها أندريه كارلوف في تركيا في التاسع عشر من الشهر الجاري، لكن فيما شكلت خسارة امريكا لسفيرها في ليبيا ضربة موجعة جعلتها تترد أكثر في التدخل في المنطقة، فإن خسارة روسيا المماثلة لسفيرها في تركيا والتي جاءت نتيجة لموقفها في سوريا، فإنها لم تزد الرئيس بوتين إلا إقداماً وإصرارا على المضي قدماً في الملف السوري فأرسل وحدة شرطة عسكرية لتنظيم حلب في مرحلة ما بعد الانتصار الأخير.
أخيراً، يخرج أوباما دونما أثر حاسم في العالم، لكنه يترك للولات المتحدة أثراً سلبياً في طبيعة القوة المحركة للنظام الدولي، ويبقى بوتين وهو أكثر صعوداً وتأثيراً برغم ما خسره، ولكنه أكثر تأثيراً في عالم ما بعد أوباما.