العملية السياسية في العراق ولدت مشوهة، بشهادة العراقيين أنفسهم، وهذه الولادة ساهمت في الصراع الطائفي، وفي انعدام الثقة، وفي غياب مشروع الدولة الوطنية لصالح مشاريع دول واقاليم طائفية وقومية، وبالمحصلة فان الحكومات المتعاقبة لم تحقق لا الأمن ولا الاستقرار والتنمية، ظل العراق يدار لحسابات داخلية صغيرة، وحسابات اقليمية معروفة، سمحت بالتطاول على هيبة الدولة العراقية من أكثر من جهة دولية واقليمية، وأصبحت تصريحات الوزراء بلا وزن لدى أعضاء ورؤساء الميليشيات مثلا، وأصبحوا هم أكثر عوائق التقدم للأمام لان الوضع الراهن يجلب عليهم مئات الملايين والمليارات.
الملفت للانتباه أن هؤلاء السياسيين، ورؤساء الميليشيات، وظفوا المرجعية لخدمة أهدافهم، وعلى خلاف ما ترغب به المرجعية أو تعنيه دائما، فيما أيضا احتكرت الأحزاب الدينية نصيبها من السلطة والمصالح، وأصبحت ثمة احتكارات لكل فريق، وبذلك غرق العراق في الفوضى، ولا أحد يرغب بتقديم تنازلات، لا بل يرغب بعضهم بالتغيير لغايات تدوير الحصص، وتوزيعها من جديد.
هذا الأمر دفع بالشرفاء في العراق للاعلان مرارا بأن سبب مشكلات العراق في سياسييه، وانهم أكثر حرصا على ادامة الفوضى، ولكن إلى متى؟ فقبل أيام كانت إيران ترصد ما نال نوري المالكي في جنوب العراق، حيث يقود المالكي حملة ضد رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، فقد أكد أنه ومع انتهاء معركة الموصل فان العراق يحتاج لقيادة حازمة، فيما راح المالكي يحاول تقويض فرص بقاء العبادي من داخل حزب الدعوة، وبدأت الاحزاب الدينية تستشعر خطورة المرحلة القادمة، وقامت بتبني مشروع المصالحة والتسوية الوطنية.
بحسب المعلومات فان التسوية الوطنية فاقدة لآليات نجاحها رغم الحاجة العراقية لها، فالتسوية تحتاج إلى معالجة الأسباب الحقيقية للازمة التي يعيشها العراق من 2003، ويجب أن تحصل على غطاء دولي واقليمي، وأن يقدم العراقيون تنازلات فعلية، ينتقلون فيها من الطائفية إلى الوطنية، وأن يصار فعلا إلى دعم دولي يحول دون تعرض العراق لتدخلات خارجية، وأن يبدأ العراق بدورة اقتصادية وطنية وليس باقتصادات طائفية، وأن ينتقل من دولة الميليشيا إلى الجيش الوطني الحقيقي، وهو الأمر الذي اشار إليه وزير الخارجية عادل الجبير، واعتبره الناطق باسم الخارجية العراقية تدخلا في موضوع له قدسية كبيرة.
إن الذين يشغلهم أمر العراق يؤكدون أن لا خلاص للعراق إلا بتجاوز البعد الطائفي، وبرفض التدخل الخارجي مهما كانت طبيعته، وأن اية علاقات مع العراق يجب أن تحترم هويته وسيادته وتعدديته، وعليه فان الحلول للمسألة العراقية لن تأتي من الخارج، بل هي حلول داخلية بالدرجة الأولى، وان أمام السياسيين فرصة تبدو أخيرة لولوج هذا الباب، وإلا فان العراق مقدم على مرحلة جديدة من الفوضى، أو الاحتجاجات الصارخة، احتجاجات من السنة والشيعة، ضد قيادات مستفيدة من حالة التشظي والصراع الطائفي.
إن تصريحات وزير الخارجية العراقي الدكتور ابراهيم الجعفري، تمثل لغة وخطابا ايجابيا، وهو شخصية معروفة في الوسط الشيعي بالحكمة والمهنية والهدوء الايجابي، سمحت له بأن يكون في مواقع حكومية وتنفيذية بشكل شبه دائم، لكن العبرة ليست في التصريحات الايجابية، وانما العبرة دائما بالعمل والتنفيذ، والانفتاح الحقيقي على الدول العربية، لانه بالمحصلة العراق بلد عربي، وشيعتنا في جنوب العراق أهلنا ولنا فيهم أكثر من إيران، وان من يحاولون الاساءة لهم بأنهم موالون لايران، نؤكد لهم أن من حرر العراق من الاستعمار الأجنبي، من ضحى لأجل العراق، لن يكون إلا عراقيا، وطبيعة أهل العراق ليست فيها طائفية على المستوى الشعبي، وإنما الطائفية مادة سياسية ومصلحية يوظفها الكبار لخدمتهم، ويروح ضحيتها الأبرياء.
في نهاية التسعينيات التقيت شاعرا وأديبا عراقيا جميلا اسمه محسن عبود الجبوري، وجبور العراق، موزعين ما بين سنة وشيعة، وكان أبا رسل قمة في الاخلاق والتواضع، والابتعاد عن الطائفية النتنة، وأذكر انه دعي للعراق في عام 2003 غير انه رفض، وانه لم يدخل العراق إلا بعد سنوات من رحيل القوات الامريكية، وعليه فان الذين يعتقدون أن الشيعة العرب موالون لايران ومتحالفون مع امريكا يظلمون العراق أولا، فمن هو متحالف خارج الاطار الوطني العراقي، هم أصحاب المصالح والمنافع، التي لن تستطيع إيران حمايتهم أو أمريكا اذا ما قرر المجتمع العراقي ذلك، وان الاستثمار في اللعبة الطائفية أصبح ممجوجا في العراق، وان الوعي المدني في الجنوب العراقي يزداد يوما بعد يوم، رغم القمع والعنف والاعتقال والاغتيال والفقر، مثلما يزداد الوعي في الوسط العربي السني برفض التطرف والارهاب الذي تمثله داعش والقاعدة ومن يحمل فكرة نفي الآخر وتكفيره.
إن تصريحات الدكتور الجعفري ايجابية، ونعتقد أنها تأتي في اطار مجموعة تحولات اجتماعية وسياسية على المستوى الشيعي وايضا على المستوى الوطني العراقي، فالعراقيون سنة وشيعة يرفضون تقسيم العراق، رغم مصالح البعض بالتقسيم والتفتيت، ورغم الحاجات الاقليمية لهذا التقسيم، وانها استقراء ايجابي لحركة المتغيرات في العراق عقب معركة تحرير الموصل، وطرد داعش، وان البعض يعمل الآن لاستثمار هذه الفرص للتقدم باتجاه مشروع وطني عراقي للمصالحة، بين من يبشرون بمرحلة دامية جديدة بين العراقيين، ولكن هذه المرة بين الشيعة والشيعة، والسنة والسنة.
إن ايجابيات تصريحات الجعفري، ينظر إليها في اطارها العراقي العام، وفي اطار الوعي الشيعي الخاص، خاصة لمن ليس لديهم في لعبة الدم والسياسة والمصالح، والتهييج الشعبي، عبر استحضار غير موفق للتاريخ، فتاريخ العراق بلد الحضارات، أكبر من تاريخ الدماء والصراعات الطائفية، وان جميع المعطيات تشير الى ان ثمة قرارا بوقف التدخلات الخارجية ونزع فتيل الطائفية، ولا يمكن لذلك ان يتم إلا اذا وجد عقلاء يقولون كفى ولوغا في لعبة الدم، ولعبة هذا سني وهذا شيعي.
المؤشرات تفيد بأن السياسة الخارجية العراقية فترة حكومة حيدر العبادي أكثر توازنا مما كانت عليه فترة نوري المالكي، فالرجل على الرغم من العثرات الكبيرة التي وضعت في دواليب حكومته، ومحاولة اعاقتها عن تحقيق أهدافها، إلا انها تبقى أفضل بكثير من حكومات نوري المالكي التي كان جزءا من سياساتها واهدافها الاساءة لعلاقات العراق العربية.
نتطلع لأن تنجح ارادة أهل الخير في العراق، وان يأخذ أمثال الدكتور ابراهيم الجعفري فرصتهم الحقيقية في رسم سياسة خارجية متوازنة للعراق، تبتعد فيها عن الهيمنة الدولية والاقليمية على قراره السياسي، وأن لا تكون انعكاسا لسياسات طائفية، وانما تعبر عن العراق شعبا وحضارة ووطنا.