من الصعب جدا أن يكون لديك والدة لا تعرف البكاء في المواقف التي تحتاج لذلك، لأن الكثير يعلم ان المرأة كائن لا يتحمل الأمور الشديدة الواقعة عليها، ومن هنا شبهها الرسول -صلى الله عليه سلم- بالزجاج سهل الكسر، وقال بأبي هو وأمي (رفقا بالقوارير). وهذه القصة تثبت ذلك.
تقول إحداهن: (تعرضت أمي لكثير من الأمور في حياتها منذ زواجها وخلال إنجابنا وفقدان والدي -رحمه الله تعالى- ومع ذلك كانت صخرة نتكئ عليها في جميع مشاكلنا التي نخوضها في العمل والحياة، كانت ذات عقل حكيم ومنطق سليم وقلب لا يعرف الحقد والغل والتخطيط والكيد، كانت محبة للخير كثيرة الابتسام والتي لم تفقدها من كثرة المحن.
وحين اقول كانت (نعم.. كانت لأنها الآن تحت التراب، رحمها الله تعالى). كان أشد آلامها فقد والدي -رحمه الله- ومع ذلك كانت تستجمع قواها لتواسينا وتمسح دمعنا وتعزز فرحنا وتذكرنا بالدعوة له، كنا ننام بحضنها ونحن في أعمار متقدمة وكانت تحتضننا وكأننا ما زلنا صغارا وتنادينا دوما (صغاري) برغم كبرنا. لم تذرف دمعة واحدة خلال فترة حزنها، كانت كالجبل الذي لا يهزه أي ريح عاتية وعابرة، ولكن هذا التفكير للأسف جعلنا نتعامل معها وكأنها إنسان خارق، فأصبحنا نشكي لها همومنا ومشاكلنا ولم نكن نعلم أن داخلها كان مهشما، لم يكن يعرف هذا إلا جارتها والتي طالما كانت لدى أمي (العين الثانية وبالطبع كانت العين الأولى والدي -رحمه الله-).
في يوم كان صباحه جميلا وهواؤه عليلا كانت أمي وجارتها تحتسيان الشاي وتتجاذبان أطراف الحديث الممتع الشيق والذكريات الحزينة المؤلمة، وتضحكان وتتغامزان بكل أمر، تركتهما لأعود بعد برهة وأرى أمي تنظر إلى جارتها بصمت وبنظرة تعدت الآفاق بالحزن، وبدموع تجري بلا نهاية وأمامها جارتها ممسكة بقدح الشاي ورأسها واقع على صدرها (فعلمت أن روحها فاضت) أحسست بألم أمي وكأني لأول مرة أراها ولم أستطع ان أفعل شيئا إلا أن أستدعي إخوتي وأخواتي لنحتضنها جميعا، انتهت مراسم الصلاة والوداع وهي بصمت قاتل لا نسمعه إلا حين تبدأ بالدعاء المصحوب بالبكاء الموجع على أمواتها كلهم. ظلت هكذا لأيام ومن ثم فاضت روحها حزنا وألما.
في تلك اللحظة علمنا أننا أصبحنا وحيدين برغم أبنائنا وأزواجنا وكل ما حولنا، ذهب ذلك الجبل الشامخ في حياتنا، ذهبت من كنا لها صغارا، ذهبت وكلنا ندم على ما فرطنا بحقها ولكن لن ينفع ندم الآن، الموت هو الأمر الوحيد الذي يجعلنا ندرك قيمة الشيء فهو ذهاب بلا عودة وليس ككل أمر آخر. هنا بكت أمي وأنتم متى بكت أمهاتكم أو أبكيتموهن. أحسنوا صحبتهن وارحموا ضعفهن، كونوا حولهن قبل ان يأتي القضاء ويكون الندم.