قال «وت برنت» لطلابه من الكتاب الشباب: «ابدأ بملء خزان خيالك بكل ما يمكنك أن تجمعه من شخصيات في حياتك، لتستخدمها في المستقبل، وحين يمتلئ الخزان افتح البوابات ودع الفيضان يسيل لما أنت على استعداد له وحين تفعل ذلك افعله بجرأة».
إن كل شخصيات القصة لها علاقة ما بالواقع الحقيقي وغالبا ما نعتقد أننا نعرفها ونفهمها، أو فشلنا في فهمها ونأمل بعملية الكتابة ان نعرفها أفضل ومن الطبيعي اننا نكتب بشكل أفضل إذا كتبنا عن محيط أو بيئة نألفها بشكل كبير.. هكذا تخبرنا «هالي برنت» مؤلفة كتاب «كتابة القصة القصيرة».
إن القاص عادة يكتب عما يعرفه، فمارسيل بروست كتب عن المجتمع الراقي وتشيكوف كتب عن الأطباء والمدرسين، ودي موباسان كتب عن نساء الليل، وهوجو كتب عن البؤساء، وكتب جوجول عن صغار الموظفين ومن يقرأ كتاب فرانك أو كونور سوف يجد المزيد.
فكل كاتب يختار مجموعته التي يعبر عنها ويتحدث بصوتها. ويقول تشيكوف: لا ينبغي للكاتب أن يكون قاضيا يحكم الشخصيات وحواراتها، ولكن يجب ان يكون شاهدا غير متحيز، أي يجب أن يكون على مسافة من الحدث والشخصيات حتى يتسنى له أن يكون موضوعياً.
تقول كاترين أن بورتر: «سر بصحبة شخصياتك كأنك تراها بعين خيالك تعيش وتتطور كأنها في الواقع ثم احك قصتها بكل الصدق».
في الكتابة الصحفية تكون كلماتنا حقيقية ويمكن التأكد من صحتها، وإلا وجدنا انفسنا في ورطة قضائية، لكن في العمل الأدبي الخيالي، لا يضرنا أحد ان نروي الحقائق كما هي، بل كما نراها ونتخيلها معتمدة على تلك الحقائق.
يقول «اندريه موروا»: إن الحياة تبدأ بالأسماء وسيبدو الإنسان عاريا ومجهولا إذا سحب منه اسمه، لكن بالنسبة للكاتب، فإن الاسم الذي يختاره للشخصية ليس هو الاسم الوحيد المناسب لها.
فالأسماء المحلية لا تصلح للتعبير عن شخصيات لها سمات أجنبية. وتطور الشخصية يرتبط بوجهة النظر التي تبنيها لقصتك فإذا كنت تروي على لسان إحدى الشخصيات فالأمر يبدو سهلا إذ ستركز على أفكار ومشاعر ذلك الشخص فنقل إحساس شخصية واحدة يبدو سهلا «كما تقول هالي بيرنت» واذا كنت تروي بضمير المتكلم ففي النهاية نحن نعرف أنفسنا أفضل.
وقبل أن نبدأ بالكتابة عن شخصية ما.. أية شخصية بما فيها أنفسنا لا تهم وجهة النظر بقدر أهمية البحث عن الدوافع والأسباب لتصرفات الشخصية.
وقد قال اليوت: «افكر في الشخصية والحوار ثم أتطلع بعد ذلك للبناء». وتسوق لنا هالي بيرنت في كتابها «كتابة القصة القصيرة» الذي ترجمه أحمد عمر شاهين بعض الملاحظات التي قد تساعد في بناء الشخصيات وتضيف إلى البناء الفني في القصة:
1ـ يمكن إضافة الحيوية والصدق والشرعية على شخصياتك بأن تدع شخصيات أخرى تتحدث عنها بشكل جيد أو رديء بتعاطف أو نفور قبل أن تظهر في المشهد أو بعده.
2ـ قف خارج الشخصية وانظر داخلها ثم ازحف وتقمصها.
3ـ انظر إلى ردود افعال الشخصية وتبريراتها، في سلوك كقاص، حاول أن تجد أخطاء أو فضائل أو عادات متشابهة داخلك وحاول أن تفهمها جيدا حتى ولو أدنتها.
4ـ جرب هذه الوسيلة الخيالية، ضع صفات شخصية ما في جسد شخصية أخرى.. اعط أطفالا لامرأة لا تنجب وانظر كيف يؤثر ذلك على شخصيتها، لاحظ سلوك إنسان فقد من يهتم بهم، أو واحدة فقدت من كانوا يهتمون بها.
تذكر قبل كل شيء أن القصة يمكن أن تعالج كل شيء. نحن نمضي مع شخصياتنا حيث تقودنا، وبما أن الزمن يترك بصمته علينا فلا بد أن يترك بصمته عليهم.
هذه بعض أفكار «هالي بيرنت» حول الشخصية القصصية وهناك أفكار وملامح أخرى سنحاول أن نقدمها تباعا للإحاطة بهذا العنصر الهام من عناصر القصة القصيرة.
******
ان الشخصية هي الجانب الأكثر إثارة والأكثر أهمية في البنائية الفنية للقصة القصيرة وخاصة الشخصيات البشرية التي يمكن للكاتب أن يقدمها برؤية عميقة ووعي أكثر وأنضج لانه يعرف الكثير عن هذه الشخصية (علم نفس واجتماع.. وغيرها) ويستطيع ان يكشف لنا الحياة الخفية لها.. أي يخبرنا أكثر مما نعرف فإننا من خلال الشخصية نستطيع ان نتعرف على المكان ومن ثم الزمان وعلى أشياء أخرى كثيرة داخل اطار القصة، فالكاتب ينتزع الشخصية من الحياة ليضعها بين السطور وهناك امكانية انتزاعها من بين السطور لتجلس أو تمشي بيننا في الشارع (تلك مهمة القارئ) ولكننا في جميع الأحوال لن نعرف الشخصية اكثر مما تظهر ودعونا نتذكر مدى قلة ما نعرفه عن الشخصية (كما قالت فرجينا وولف) ومدى ما لحق بها من ظلم وتجاهل النقد لها.
في الشعرية الأرسطية كانت الشخصية تعتبر ثانوية بالقياس إلى باقي عناصر العمل التخيلي وتكون خاضعة تماما لمفهوم الحدث وقد انتقل هذا التصور إلى التنظير الكلاسيكي الذي لم يعد يرى في الشخصية سوى مجرد اسم بالبطل او وصفه.
واذا كانت الشخصية قد احتلت مكانا بارزا في الأعمال الروائية والقصصية وأصبح لها وجودها المستقل عن الحدث وذلك في نهاية القرن التاسع عشر الا انها برغم ما طرأ عليها من تغير وتطور نتيجة تغير وتطور المجتمع ما زالت مهمشة نقديا.
ان علاقة الشخصية بالعالم من خلال السرد أضحت علاقة إشكالية لا متسقة ويرى باختين انه ليس من المهم عنده ما تمثله الشخصية في العالم ولكن ما يمثله العالم بالنسبة للشخصية وما تحتله الشخصية بالنسبة لنفسها.. من هذا المنطلق كان التعاطي على مفهوم الشخصية.
وقد ساعد على شيوع هذه الإشكالية ان كثيرا من المحللين النفسيين للأدب وخاصة منهم ذوي النزعة الاختيارية قد دأبوا على الاستعانة بتصريحات الكاتب وآرائهم الشخصية مما اسقطهم في النموذج السيكولوجي وابعدهم عن الفهم الوظيفي للشخصية.
إن الشخصية لم تعد خلاصة من التجارب المعاشة او المنعكسة كما عودنا ذلك النقد القديم (أي مزيج من افتراضات المؤلف الذي دفع بالقارئ إلى محاولة البحث عن التطابق بين المؤلف والشخصية التخيلية خصوصا في قصص ضمير المتكلم) وغنى عن البيان كما يقول (حسن بحراوي) ان الشخصية القصصية ليست هي المؤلف الواقعي وذلك لسبب بسيط هو ان الشخصية محض خيال يبدعه المؤلف لغاية فنية محددة يسعى اليها وتؤدي القراءة الساذجة من جانبها إلى سوء التأويل ذاك حين تخلط بين الشخصية التخيلية والشخصية الواقعية فالشخصية القصصية لا وجود لها خارج الكلمات لانها ليست سوى كائنات من ورق.
ويتفق هذا مع المفهوم اللساني للشخصية فقد جرد (تودروف) الشخصية من محتواها الدلالي وأوقفها عند وظيفتها النحوية فجعلها بمثابة الفاعل في العبارة.
وفيليب هامون الذي ذهب إلى حد الإعلان عن أن مفهوم الشخصية ليس ما هو (أدبيا) محضا وإنما هو مرتبط بالجانب الوظيفي النحوي داخل النص وتأتي وظيفتها الأدبية حين يحتكم النقاد إلى المقاييس الثقافية.
ويصنف هاملتون الشخصية تيبولوجيا إلى ثلاث فئات يرى انها تغطي مجموع الانتاج القصصي فهناك:
1ـ فئة الشخصية المرجعية وتدخل ضمنها الشخصيات التاريخية الاسطورية والمجازية والاجتماعية.
2ـ فئة الشخصيات الواصلة وتكون علامات على حضور المؤلف والقارئ او من ينوب عنهما في النص.
3ـ الشخصيات المتكررة وهنا تكون الإحالة ضرورية فقط للنظام الخاص بالعمل الأدبي.
والحديث عن كل فئة يطول كما ان الحديث عن الشخصية القصصية من الأمور المعقدة وليست كما يخيل للبعض وما قدمناه اضاءة فقط لبعض أمور الشخصية في القصة القصيرة قد تكون مفاتيح اولى تلزمها تواصلات وتوضيحات اخرى سوف نرى لها من خلال الأعمال القصصية او بعض الكتابات النظرية.