بشكل منفرد - دون التشاور مع الأوروبيين- أقدم الكونجرس الأمريكي في منتصف الشهر الحالي على إقرار عقوبات جديدة حظيت بأغلبية ساحقة من أعضاء كلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي 98 صوتًا من مائة صوت. اللافت أيضا في هذا القرار أنه يأتي مباشرة من الكونجرس وكأنه المرجعية الأولى في هذا المشروع. صحيح أن المشروع سيأخذ طريقه الدستوري للتصويت عليه في مجلس النواب ومن ثم إلى البيت الأبيض لإقراره من الرئيس دونالد ترامب، لكن صائغي قرار العقوبات الجديد أخذوا في الحسبان احتمالات المراجعة فأضافوا بندا واضحا يقيد يدي الرئيس ترامب في أي مسعى للتخفيف من هذه العقوبات ذلك ما أكدته جريدة لوتمب السويسرية في تقرير لها عن ميكانيزمات القرار «لا مجال للتهاون في الضغوط على فلاديمير بوتين وسياساته في القرم وأوكرانيا وسوريا.. الكونجرس في هذه السياقات هو الحكم وليس الرئيس ترامب - تقول الجريدة». الكثير من الصحف الأوروبية ترى نفس الرأي حول الجوانب الدستورية في أولوية الكونجرس في مشروع هذا القرار، لكنها تذهب لتبعات هذا القرار في حالة إقراره على المصالح الأوروبية وبخاصة على ألمانيا والنمسا وعلى سياسة التحالف التاريخي الذي لا يزال ساريا حتى اليوم بين الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا والمعروف بالتحالف الغربي. ونظرا لأولوية الجوانب السياسية لدى الفرنسيين في مجال التعبئة لمصالحهم الاقتصادية، سارعت فرنسا، ومنذ اليوم التالي لإعلان مشروع العقوبات إلى الطلب من الولايات المتحدة الأمريكية بـ «احترام التنسيق الضروري مع شركائها الأوروبيين في إجراءات العقوبات ضد روسيا لأن هذه العقوبات ستطال الشركات الأوروبية العاملة في مشاريع مشتركة مع روسيا تمت في مناسبات وشروط سابقة يمكن الحوار حولها في إطار مجموعة القوى العظمى ج7.» هنا فرنسا تتحدث باسم ألمانيا التي انتقدت العقوبات مباشرة بعد صدورها وعلى لسان ستيفان زيبرت الناطق باسم الحكومة الألمانية الذي أشار في تصريح صحفي إلى استغرابه من هذا الإجراء الضار بالمصالح الأوروبية. من الغريب أن يأتي قرار يقصد منه معاقبة روسيا على تدخلها المزعوم في الانتخابات الأمريكية لتطال هذه العقوبات الاقتصاد الأوروبي. ما يقف وراء ردود الفعل الأوروبية، وتحديدا الألمانية والنمساوية هو المشروع العملاق لبناء أنابيب الإمداد بالغاز والطاقة بين روسيا وأوروبا والشركات الألمانية والنمساوية العاملة فيه. أما ما يشغل أمريكا فهو تخريب هذا المشروع وإمداد أوروبا بما تحتاجه من غاز وطاقة عبر المصانع والناقلات الأمريكية. وإذا كان الأمر كذلك، أو فيه شيء من ذلك فإن الأمر الحاسم في ذلك هو عوامل القوة والضعف ليس بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية كما يبدو، بل بين الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا العجوز والعاجزة إلى اليوم عن الخروج من عباءة «الأخ الأكبر» الذي انتقل من موسكو الشمولية إلى واشنطن الديمقراطية. لذلك، وبالرغم من التصريحات الاستقلالية لأوروبا الجديدة بعد انهيار العدو الأكبر- الشيوعية - لبناء قوة دفاع أوروبية ديجولية منذ نصف قرن - ومعاصرة على لسان أنجيلا ميركل زعيمة أكبر اقتصاد في أوروبا، تبقى أوروبا متعالية لكنها ضعيفة وقوتها بحاجة لاستثمارات هائلة لا يوفرها اقتصاد السوق والسباقات الانتخابية. لذلك، عندما يعطى الكلام «لعقلاء» الجوانب الاقتصادية في البنوك والمؤسسات المالية العملاقة التي تقدم ضمانات وقروضا للشركات العاملة، سواء في مصانع وناقلات الطاقة في أمريكا أو روسيا، ينصح هؤلاء أوروبا بالتريث وعدم اللجوء إلى التصعيد بين ضفتي الأطلسي. والله المستعان.