في الحقبة المبكرة من تاريخ الخبر، وتحديدا في سنوات ما قبل اكتشاف النفط، كانت الأنشطة الاقتصادية متواضعة، وبالتالي كانت مداخيل الناس بصفة عامة قليلة ولا تستدعي الخوف عليها من الضياع. أما القلة من الناس ممن كانوا في يسر وبحبوحة مالية فقد كانوا يحتفظون بثروتهم النقدية في الخزائن الحديدية الضخمة المعروفة باسم «تجوري»، علما بأن الكلمة محرفة من اللفظ الانجليزي treasury الذي يعني الخزانة كما في قولهم Ministry of Treasury أي وزارة الخزانة.
كانت هذه الخزائن ترد إلى البحرين ومنها إلى المنطقة الشرقية من الهند على ظهر السفن الشراعية، وكانت ثقيلة الوزن كونها مصنوعة من الحديد الصلب الخام، كيلا يسهل على اللصوص فتحها أو تحريكها من مكانها، كما كانت مبطنة بطبقة من الرمل كنوع من أنواع الوقاية والمقاومة ضد الحريق. وكان بعضها على الأقل يحتوي على تجاويف متعددة ولكل تجويف باب ومفتاح زيادة في الأمان والسرية. وكان آخر عهدنا بمثل هذه الخزائن في الخبر، الخزانة الضخمة التي كانت لدى الصراف الحضرمي بازرعة في شارع التقاطع «أ» بجوار محلات «بارحيم باعشن»، حيث كان بإمكانه أن يدخلها بكامل جسمه ويجلس فيها ليحسب النقود بعيدا عن الأنظار.
في الزاوية اليمنى مقر أول محل صرافة بالخبر (صرافة صالح بازهير وشركاه) في شارع الملك سعود في عام 1952م (تصوير: الامريكية دورثي ميلر)
#حجم السيولة#
لاحقا، وكنتيجة لازدياد الأنشطة الاقتصادية حجما ونوعا بسبب اكتشاف النفط وتصديره أولا، ثم بسبب اتساع الأعمال ذات الصلة بتطوير حقول ومنشآت الزيت وتحسين البنى التحتية وما كانت شركة أرامكو تضخه في السوق من أموال. ثانيا، تحسنت الأحوال المعيشية لأبناء المنطقة الشرقية وزاد حجم السيولة النقدية المتوافرة لديهم، وصاحب ذلك شيء من عدم الأمان لأن الأموال كانت في تلك الأيام عبارة عن أكياس من الريالات الفضية، وبالتالي كان من الصعب إخفاؤها. ويكفي في هذا السياق أن نشير إلى ما ذكره الدكتور عبدالله ناصر السبيعي في كتابه القيم «اكتشاف النفط وأثره على الحياة الاقتصادية في المنطقة الشرقية 1933 ــ 1960» من أن وزن أجور عمال وموظفي شركة أرامكو في عام 1950 مثلا كان يزيد على 60 طنا من الفضة، وأن معدل وزن راتب الموظف الواحد كان يصل إلى حوالي عشرة أرطال (4.5 كلجم).
وعليه فإنه ابتداء من أواخر الأربعينيات، بدت الحاجة ماسة إلى وعاء آمن يحفظ أموال الناس من الضياع والسرقة، فكان أن ظهر في بداية الأمر بعض دكاكين الصرافة التي أخذت على عاتقها -إلى جانب تبديل العملات الأجنبيةـ استلام أموال الأهالي بغرض حفظها في خزائنها الحديدية فحسب، وكان معظمها بإدارة الأشقاء الحضارم المعروفين بالامانة والوفاء بالعهود. وكان أول هؤلاء هو صالح بازهير الذي فتح محلا للصرافة في عام 1952 في الزاوية المطلة على «شارع الملك سعود» التجاري المهم وشارع التقاطع الثاني، قبل أن ينتقل إلى المنطقة التي عرفت قديما في الخبر بمنطقة تمركز محلات الصرافة في شارع التقاطع «أ» بين شارعي الملك سعود والملك فيصل.
#الازدهار الاقتصادي#
أما المصارف بأشكالها ومهامها المتعددة المعروفة، فقد تأخر ظهورها في الخبر بعض الشيء. وهذا ليس بغريب كون المملكة العربية السعودية لم تعرف حتى عام 1948 إلا مصرفا واحدا هو مصرف «نيذر لاندز تريدينغ سوسيتي» (الشركة التجارية الهولندية) المؤسس في هولندا في عام 1824، الذي بدأ عمله في جدة ابتداء من عام 1926، وكان معظم نشاطه موجها لخدمة حجاج أندونيسيا، التي كانت تستعمرها هولندا آنذاك.
لقد فرض الازدهار الاقتصادي وتطور أنشطة التصدير والاستيراد واتساع حجم أعمال المقاولات والتجارة بصفة عامة ضرورة وجود مصارف في المنطقة الشرقية كي تؤدي أدوارها التقليدية المعروفة مثل: الاحتفاظ بالودائع، وفتح الاعتمادات التجارية الخارجية، وتقديم القروض والتسهيلات الإئتمانية، وتحويل الأموال وغيرها. ولأن الخبر كانت المدينة الأقرب إلى المركز الرئيس لإدارة شركة أرامكو، وكانت في الوقت نفسه الأكثر تنظيما وحداثة وازدهارا بالمقارنة مع غيرها من مدن الشرقية، فقد استحوذت على أكبر عدد من فروع المصارف الأجنبية والمحلية. لكن هذه البنوك واجهتها في بدايات عملها مشكلة توفير الكوادر الملمة بمتطلبات العمل المصرفي، حيث لم تكن في المملكة وقتذاك كوادر محلية قادرة على الاضطلاع بتلك المهام، لذا لجأت لسنوات طويلة إلى الاستعانة بذوي الخبرة المصرفية من بلاد الشام ومصر والهند وباكستان، إضافة إلى عدد معتبر من أبناء البحرين المعروفة بأسبقيتها في منطقة الخليج لجهة التعليم النظامي وتدريس اللغة الانجليزية وتأسيس معاهد العلوم التجارية، ناهيك عن حقيقة أسبقيتها إلى احتضان فروع المصارف الأجنبية، حيث إن أول مصرف افتتح بها كان «البنك الشرقي» البريطاني الجنسية في يوليو 1920، وهو البنك المعروف اليوم باسم «ستاندارد تشارترد بنك».
عمارة الشيخ عبدالرحمن الطبيشي، حيث كانت المقر الأول لبنك السويس والاندوشين وبنك هولندا العام والبنك العربي المحدود (أرشيف مجلة قافلة الزيت)
#الأندوشين والسويس#
كانت البداية مع فرع لبنك الأندوشين والسويس Banque Suisse et L’indochine (البنك الفرنسي لاحقا ثم البنك السعودي الفرنسي)، الذي افتتح في الخبر في عام 1948، بالقرب من الحي التجاري القديم في شارع الملك سعود، ثم شغل لاحقا مساحة واسعة من الدور الأرضي لبناية الشيخ عبدالرحمن الطبيشي (أفخم عمارات الخبر على الإطلاق والوحيدة آنذاك المزودة بمصعد كهربائي)، قبل انتقاله بعد تسميته بالبنك السعودي الفرنسي في عام 1977 إلى الدور الأرضي من مبنى مستشفى السلامة الحالي، وتحديدا في الزاوية المطلة على شارع التقاطع الأول وشارع الأمير ناصر. وفي مرحلة لاحقة انتقل البنك إلى موقع جديد مطل على شارع التقاطع الأول وشارع الأمير منصور.
تلاه في عام 1950 «البنك البريطاني للشرق الأوسط» الذي بنى لنفسه مقرا جميلا من الحجر الصخري بالقرب من منطقة تمركز الأنشطة التجارية بالخبر آنذاك أي بالقرب من شارع الملك سعود، وتحديدا في شارع التقاطع الثاني قبل تقاطعه مع شارع الأمير طلال. والمعروف أن هذا البنك بدأ أعماله في ايران في عام 1885 بموجب تفويض خاص لمالكه البريطاني تحت اسم «بنك فارس الإمبراطوري» قبل أن يتحول اسمه إلى «البنك الإمبراطوري لإيران». وفي عام 1949 تغير اسمه إلى «البنك البريطاني لإيران والشرق الأوسط»، ثم تغير الاسم مرة أخرى في عام 1950 إلى البنك البريطاني للشرق الأوسط. وهذا المصرف لا يزال يعمل في الخبر وبقية المدن السعودية تحت اسم «البنك السعودي البريطاني SABB» منذ فبراير 1978، فيما يعمل في دول الخليج المجاورة تحت اسم «مجموعة هونج كونج وشنغهاي المصرفية HSBC».
زاوية عمارة السرور في شارع الملك خالد التي كانت مقرا لأول فرع من فروع البنك الأهلي التجاري (من أرشيف مجلة قافلة الزيت)
#البنك الأهلي#
وقبيل انتصاف العقد الخامس من القرن العشرين، شهدت الخبر افتتاح أول فرع لبنك محلي هو «البنك الأهلي التجاري»، الذي كان قد تأسس بجدة في عام 1953 حينما أمر الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود -طيب الله ثراه- بتحويل شركة صالح وعبدالعزيز كعكي وسالم بن محفوظ للصرافة إلى مصرف يحمل اسم «البنك الأهلي التجاري». وكان أول مقر لهذا البنك بالخبر في عمارة عبدالرحمن السرور الصبان، وتحديدا في الزاوية التي تطل على شارع الملك خالد وشارع التقاطع الثاني أي الزاوية، التي تحتها حاليا محلات الخان. وفي السبعينيات انتقل مقره إلى الزاوية المواجهة في مبنى عصري من ثلاثة أدوار بناه أصحاب البنك ليتناسب مع توسع أعمالهم المصرفية في الخبر، خصوصا أن مرحلة الطفرة النفطية بتداعياتها الايجابية على الأنشطة التجارية وحركة رؤوس الأموال ومشاريع التنمية استدعت انتقال البنك إلى مكان أرحب وأكثر تميزا. ومنذ التسعينيات انتقل فرع البنك الرئيس بالخبر إلى موقعه المتميز الحالي، الذي يطل على شارع التقاطع الثالث وشارع الملك فهد وشارع الأمير منصور.
#البنك الأول#
وفي عام 1955 الموافق لسنة 1375 للهجرة تم افتتاح أول فرع لبنك هولندا العام (ألخمينه نيذرلاندز بنك) الذي صار يـُعرف منذ ديسمبر 1976 باسم «البنك السعودي الهولندي» (تغير اسمه ابتداء من نوفمبر 2016 إلى البنك الأول)، وذلك بالقرب من مقر بنك الاندوشين والسويس في عمارة الطبيشي، التي كانت تطل على شارعي الملك فيصل والأمير محمد. وفي مرحلة ثانية، انتقل مقر هذا البنك إلى الزاوية المطلة على شارع التقاطع الثاني وشارع الأمير ناصر في الدور الأرضي لمبنى مستشفى السلامة الحالي الذي بناه التاجر البحريني المرحوم عبدالله علي خاجة في الستينيات ليكون أول «ديبارتمنت ستور» في منطقة الخليج على الإطلاق قبل أن يبيعه إلى أصحاب المستشفى المذكور. وفي مرحلة ثالثة، انتقل إلى الزاوية المطلة على شارع التقاطع الأول وشارع الأمير ناصر في مبنى من أملاك الوجيه عبدالله الدرويش. وكان هذا قبل انتقاله للمرة الرابعة إلى مبنى حديث في شارع الأمير محمد/تقاطع 2.
#بنك الرياض#
وشهدت سنة 1957 الموافق لسنة 1377 للهجرة افتتاح فرع لبنك الرياض، ثاني أكبر المصارف الوطنية آنذاك، الذي كان قد تأسس وبدأ نشاطه في السنة ذاتها انطلاقا من العاصمة الرياض كشركة مساهمة. بدأ بنك الرياض نشاطه في الخبر بفرع واحد كان مقره في الزاوية المطلة على شارع التقاطع الأول وشارع الأمير منصور بالدور الأرضي لمستشفى السلامة، وظل كذلك لسنوات طويلة تحت إدارة المرحوم محمد الخزيم، أحد وجهاء الخبر المثقفين، ممن يدين له هذا البنك الوطني بالكثير لأنه تولى إدارته في زمن صعب واستطاع بخبراته المتراكمة وعلاقاته المتشعبة أن ينتشله من الخسائر ويضعه على خط النجاح وتحقيق الأرباح. ويعتبر الخزيم صاحب فكرة تأسيس أول فرع نسائي للبنوك في السعودية، وذلك حينما عمل على استصدار موافقة الجهات الرسمية لافتتاح فرع نسائي لبنك الرياض في الخبر في عام 1981، فزاول الفرع المذكور مختلف الأعمال المصرفية بقيادة ثماني سعوديات وثلاث موظفات غير سعوديات من بعد تدريبهن لمدة 3 أشهر. وكان الخزيم وقتذاك يراقب أعمال الفرع ويدعمها من خلال حث معارفه من رجال الأعمال على افتتاح حسابات مصرفية لزوجاتهم وبناتهم، وكذلك من خلال الاتصال بكليات ومعاهد البنات كي يتم دفع رواتب المنتسبات ومكافآتهن عبر حسابات بنكية في الفرع النسائي.
#البنك العربي#
وفي الخمسينيات احتضنت الخبر فرعا للبنك العربي المحدود، الذي كان قد دخل البلاد السعودية عبر تأسيسه لفرع في جدة في عام 1949، علما بأن هذا المصرف تأسس في القدس في مايو 1930 برأسمال قدره 15 ألف جنيه فلسطيني وبجهود بعض المساهمين الفلسطينيين وعلى رأسهم عبدالحميد شومان. وكان مقر فرع البنك بالخبر في الدور الأرضي لعمارة الطبيشي من جهته المطلة على شارع الملك فيصل. وبسبب جنسيته الفلسطينية ووجود فروع كثيرة له في مختلف الدول العربية استطاع البنك العربي أن يستقطب عملاء كثر من الاشقاء العرب القاطنين وقتذاك في الخبر، سواء من موظفي أرامكو أو العاملين في سلكي التدريس والتطبيب. وظل على هذا الحال حتى عام 1979 حينما صدر قرار بسعودة البنك. ويقال إنه حدثت اشكالات بين الحكومة السعودية ومالكه حول الاسم الجديد للبنك، وكحل وسط تم اختيار اسم «البنك العربي الوطني».
#بنك القاهرة#
ومن المصارف، التي افتتحت فرعا لها في الخبر في أواخر الخمسينيات بنك القاهرة، الذي كان قد تأسس بمصر في مايو 1952 كشركة مساهمة مصرية برأسمال قدره نصف مليون جنيه مصري. وكان فرع بنك القاهرة بالخبر يقع في الدور الأرضي من بناية الزامل بشارع الملك سعود قبل تقاطعه مع شارع التقاطع «أ». وظل هذا المصرف يمارس نشاطه بنجاح إلى أن صدر قرار بتحويله إلى شركة مساهمة سعودية - مصرية تحت اسم «بنك القاهرة السعودي» في عام 1977 او نحو ذلك. ووقتذاك نقل البنك مقره إلى إحدى عمارات صدقة وسراج كعكي الواقعة في شارع التقاطع «أ» بين شارعي الأميرين ناصر ومنصور، وتحديدا في المكان الذي يشغله اليوم متجر إلكترونيات العمودي. وفي عام 1997، تم دمج «القاهرة السعودي» مع «البنك السعودي التجاري المتحد»، الذي كان قد ظهر على الساحة المصرفية جراء دمج «بنك لبنان والمهجر» و«بنك ملي إيران» و«البنك المتحد الباكستاني»، وكنتيجة لذلك ظهر «البنك السعودي المتحد»، الذي تم تملكه بالكامل في عام 1999 من قبل البنك السعودي الأمريكي (سيتي بنك سابقا).
في الثمانينيات، وبعد قرارات سعودة المصارف، تم تحويل البنك الأهلي الباكستاني إلى بنك الجزيرة، الذي فتح فرعا له في الخبر في منتصف شارع الملك عبدالعزيز.
من جهة أخرى، شهدت نهايات عقد الثمانينيات (عام 1987 أو نحو ذلك) تحويل شركة صرافة كبرى إلى شركة مصرفية مساهمة تحت اسم «شركة الراجحي المصرفية للاستثمار». والأخير كان فرعه الأول بالخبر في شارع التقاطع الأول.
مبنى مستشفى السلامة الذي كان دوره الأرضي مقرا للعديد من المصارف (من أرشيف د. عبدالله المدني)