من المثير حقاً، وعند قراءتنا بعض الشروحات التي تحاول رسم ملامح لقصيدة النثر وتتبع قواعدها أن يتبدى لنا جانب مثير فيها ويمكن وصفه بعملية قراءة الكرة البِللوّرية الشهيرة! وأيضاً يصدق تماماً على بعض شعرائها وهم يجاهدون بلغة شعرية مشحونة بالمجاز والاستعارات في تقريب صورتها إلينا. لكن عندما نقبل عليها بجدية نجد أنها يمكن مقاربتها بموضوعية، وذلك عندما نستنطق أس المشكل فيها وهو الغموض المشاكس الذي يتغلغل في مفاصلها بفرضية نضعها كمحدد لتلك العملية وهو عنصر «التجريد» الملازم لها.
ففي بعض تعريفات المعاجم لمعنى التجريد نجد أنه يمكن تفسيره بأن (ينتزع الإنسانُ من نفسه شخصًا يُخاطبه) فكيف عندما ينتزع الشاعر أشخاصاً من نفسه كما هو نص الشاعر زياد السالم: (أطلقت الرصاص عليهم؛ قتلت هؤلاء الذين يشبهونني، دم الأشباه القتلى لذيذ، أنا أنزف بشدة، لكن لسوء الحظ نجوت، كنت الناجي الوحيد من بين القتلى)!؟
الشاعر في هذا النص يصعد بالتجريد إلى آفاق متعالية عندما يستل الصفات والقناعات التي كونت ذاته الثقافية وارتبطت بها لفترة طويلة من الزمن، ثم يطرح بهم خارجاً حتى ينجو بذاته الأصلية ويعيد تشكيلها وفق قناعاته الجديدة. أي يمكن تأويل النص بأنه يذهب في معناه إلى حالة من الشقاء المعرفي نتيجة لنمو في الوعي يستتبعه تبدلٌ في القناعات.
أحسب أن زياداً وبالرغم من إيغاله في التجريد، إلا أنه قد نجا من الوقوع في «مطب الفراغ» الذي حذر منه الشاعر والفيلسوف الألماني فريدريك شيللر، وذلك متى ما استقى الشاعر مادته من عالم الأفكار الداخلية وحدها بعيداً عن حدود التجربة الحسية وشطح بالفكرة بشكل يعجز العقل عن مجاراة تلك الصور واستيعابها.
هكذا إذن، فكلما أمعنت قصيدة النثر في التجريد، فعلى قارئها أن يقابلها بتأويلات حسية معقلنة، فإن بقي المعنى على انغلاقه فتلك إشارة على وقوع النص في محذور الشاعر الألماني شيللر.