يعتبر نظام تسوية المنازعات ذات الطبيعة التجارية بين الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالميّة أحدَ أهم المبادئ الرئيسة للمنظّمة لارتباطه المباشر بأهدافِ حريَّة التجارةِ العالميَّةِ، كما أنَّه يعدُّ دعامَةً وركيزةً أساسيَّة لنظامِ التجارة متعدِّدة الأطرافِ، ويعدُّ إسهاماً متميّزاً لمنظمةِ التجارةِ العالميَّة في استقرارِ الاقتصادِ العالميّ.
ولقد أفردت منظمة التجارة العالميَّة وخصصت اتفاقيَّةً مستقلّةً لتسوية المنازعات التي يمكن أنْ تنشأ بين الدولِ الأعضاءِ، ونظَّمتْ فيها الأحكامَ والإجراءات التي يلزم اتباعها، وعدم الخروج عليها، أو تجاوزها. ولكنَّها في الوقت ذاته جعلتْ هذه الاتفاقيَّة مرتبطةً بجميعِ اتفاقات المنظمة وجزءًا لا يتجزَّأ منها، وتُعتبر هذه الاتفاقية أهم مخرجات وإنجازات منظَّمة التجارة، وقد تمَّ إدراجها في الملحق الثاني لاتفاقية إنشاء هذه المنظمة (اتفاقية مراكش) وسمّيتْ بمذكرةِ أو وثيقةِ تفاهم تسوية المنازعات.
أما جهة الاختصاص بتسوية المنازعات في منظمة التجارة العالميَّة؛ فهي جهاز تسوية المنازعات Dispute Settlement Board (D.S.B) الذي يفصل في النزاعات التي تنشب بين الأعضاء وفقًا لحقوقهم والتزاماتهم المترتِّبة بموجب الاتفاقات الخاضعة للمنظمة، ومكافحة أيّ تجاوزٍ أو خرقٍ أو انتهاكٍ لها. وقد جاء إنشاء هذا الجهاز وفقاً للمادة (1/2) من وثيقةِ أو مذكرةِ التفاهم لكي يديرَ القواعدَ والإجراءات وكذلك أحكام المشاورات وتسوية المنازعات التي جاء النصُّ عليها في الاتفاقيّات المشمولة. والآلياتُ المتبعةُ بشأن تسوية المنازعات في المنظمةِ تقوم على أساسٍ أخلاقيّ، وتجمع بين الأساليب الوديَّة أو الدبلوماسيَّة وبين الأساليب القضائيَّة، فالأولى: تقوم على التراضي والاتفاق بين الخصوم، وتهدف إلى تقريب وجهات النظر والمواقف المتعارضة بين المتنازعين بغية تسوية النزاع القائم بينهم، والثانية: لا يتمُّ اللجوء إليها إلَّا بعد المرور على الأولى، إذ يجب أولاً أن يلجأ الطرف الشاكي إلى الأساليب الوديَّة التي جعلها جهاز تسوية المنازعات ذاتَ أولويَّة قبل اللجوء إلى الطرق القضائيَّة، ويعدُّ هذا الإجراء إجراءً إلزاميًا وليس اختياريًا لا يمكن تجاوزه أو تخطّيه بأيِّ حالٍ من الأحوالِ. فالإجراءُ الأوّليّ والإلزاميّ الذي يتبعه أطرافُ النزاع بموجب نصِّ المادة الرابعة من مذكرة التفاهم بشأن ِتسوية المنازعات، هو ضرورة البدء أولاً بإجراء مشاورات بين الطرف الشاكي والطرف الآخر المشكو ضدَّه، إذ إنّ الدول الأعضاء ملزمةٌ بالمرور أولاً بمرحلة المشاورات، ويتمُّ ذلك بتقديم طلبٍ رسميٍّ لإجراء مشاورات كمحاولةٍ أوليَّةٍ.
ولا تقتصر المشاورات على الطريقة المباشرة، إذ يمكن أن تتمَّ هذه المشاورات بطريقةٍ غير مباشرة، ويصدق هذا القول على المنازعات التي يتم بصددها تبادل الرسائل والمذكرات الدبلوماسية فقط، دون حضور واجتماع طرفي النزاع على مائدة المشاورات. وقد يحدث أن يتمَّ الدمج بين كلا النوعين من المشاورات (المباشرة وغير المباشرة) كأن يجتمع الأطراف عدَّة مرَّات ويتمَّ بينهم في الوقت ذاته تبادلُ الاتصالات والرسائلِ والمذكّرات.
وتعدُّ المشاورات وسيلة سريعة وفاعلة يمكن أن تحقق نتائج ملموسة لعل أهمها تسوية النزاع وديًا، وهذه الوسيلة أحاطتها المنظمة بسياج منيع من الضمانات والقيود والضوابط حتى تؤتي ثمارها وتقوِّي من دورها وفاعليتها في تسوية المنازعات أو الخلافات الناشبة.
وسوف نكمل الحديث في المقال القادم -إن شاء الله تعالى- حول بعض الجوانب والأحكام الخاصَّة بالمشاورات وغيرها من وسائل التسوية الأخرى.