عرف عن أبي تمام الجد والعزم والمضي في الأمر كما عرف عنه اعتزازه بشعره الذي ترفع فيه عن كثير من الزلل المعنوي الذي يجافي طباعه، فكان إذا مدح ختم قصيدته بما يفيد بأن تلك القصيدة هدية منه للممدوح ولا يقدمها بانتقاص من قدره عبر إيحاء بحاجته للعطاء وإنما بمثل قوله:
خذها ابنة الفكر المهذب في الدجي
والليل أسود رقعة الجلباب بكراً تورث في الحياة وتنشني في السلم وهي كثيرة الأسلاب ويزيدها مر الليالي جدة وتقادم الأيام حسن شباب
فليته يعلم أن ما قاله تحقق وأن فكره المهذب يتجدد اليوم بيننا بعد أن تقادمت قرون من الزمن تفصل بيننا وبين زمنه، ولعل من أجمل ما زادته الأيام جدة وظلت شابة تلك المعاني النفيسة التي طعم فيها أبياته بما حملت من حكم رائعة هي نتاج تأمل عميق في الحياة والإنسان ومن ذلك قوله المميز:
وطول مقام المرء في الحي مخلق لديباجتيه، فاغترب تتجدد
فإني رأيت الشمس زيدت محبة إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد
التجدد بالتغرب معنى يطول ويقصر بطول وقصر زمان الاغتراب وأسبابه، ولكن الذي لا يغيب عن ذلك المعنى هو التجدد الذي يمس روح وعقل المغترب ومن خلفهم وراءه بعد أن فقدوه لفترة زمنية ما. هو تجدد في المشاعر والرؤى والقناعات.. تجدد تحفه الخبرة والتجربة والتجدد بعد كل ذلك بالمجمل سمة من سمات التغرب وإحداث حركة زمانية ومكانية يستفيد منها الجميع. وقد علل الشاعر ذلك بغروب الشمس وشروقها وما فيه من تأكيد على فكرته، فلو كانت ثابتة لا يغادرنا شعاعها لمللناها وثباتها ولهذا يحتفي كل منا بطريقته الخاصة بغروبها وشروقها. ولطالما كانت هذه الغيبة لها ومعاودة الظهور فيما بعد ملهمة للشعراء والرسامين والكتاب. فكانت تفاصيل ذلك الغياب موجعة للبعض وباعثة للأمل والتفاؤل في نفوس أخرى.
هذا المعنى الذي يمكن لنا أن نكتب عنه وفيه كثير من الفلسفة وأساليب المعالجة وكيفية التغابي ايجابية وسلبية.. فمنه التغاضي ومنه المرونة ومنه تهوين الأمور لا تصعيبها ومنه علاج ومنه عزيمة ولك أن تقلب المعنى كيفما أردت.
لقد كان يتعامل في شعره حين يرمي شباكه حول فكرة ما بعين قلبه وهو مؤمن بتلك العين الفاحصة اللاقطة فهو يقول:
ولذاك قيل من الظنون جلية صدق، وفي بعض القلوب عيون
إنه الإحساس القوي الذي يقوده من قلبه وعقله.. وهكذا كان هو في حياته كثيراً ما واجه لوماً وعذلاً على ذلك إلا أنه كان عنيداً صلب المراس فيما تشير به عليه عين قلبه. ولم لا؟ أليس هو القائل:
ليس الغبي بسيد في قومه لكن سيد قومه المتغابي
هذا المعنى الذي يمكن لنا أن نكتب عنه وفيه كثير من الفلسفة وأساليب المعالجة وكيفية التغابي إيجابية وسلبية.. فمنه التغاضي ومنه المرونة ومنه تهوين الأمور لا تصعيبها ومنه علاج ومنه عزيمة ولك أن تقلب المعنى كيفما أردت.
ومن جميل قوله:
ما يحسم العقل والدنيا تساس به ما يحسم الطير في الأحداث والنوب
الصبر كاس وبطن الكف عارية والعقل عار إذا لم يكس بالنشب
ذلك جانب بسيط من حكمة تناقلها الناس والزمن لأبي تمام الذي عد من مثقفي عصره، تلك الثقافة التي استمدت قوتها من الهند وفارس واليونان، وما خرج به هو من بنات أفكاره التي كانت تغوص في العمق لتلقي لعقولنا دررا.