استمعت إلى قصيدة الشاعر العراقي الراحل عبدالرزاق عبدالواحد (كبير على بغداد) فأي حزن هذا الذي غمرني على العراق، وأي ذكريات استدعتها ذاكرتي لتطفو فوق مشاعري لتأخذني إلى العراق التي حلمت في طفولتي أن أزورها، فما تحقق حلمي حتى اليوم. العراق التي عشقت حكاياتها بدءاً من صديقات أختي التي عملت في التعليم مبكراً وهي في الرابعة عشرة من عمرها حين كانت مدارسنا الابتدائية تجمع العراقية والأردنية والسورية والسعودية، كانت إحداهن زهرة عراقية تدعى ليلى كم كنت أحب لهجتها العراقية المميزة. رحلت وظلت رسائلها تصل لأختي فعلقت بذاكرتي ولا أعرف ما السر في ذلك؟ هل هو تعجبي من هذه العلاقات الانسانية مع آخرين يعيشون بعيداً عنا؟ أم هي ابتسامتها أم لهجتها أم إن السر في كونها عراقية وهذا يكفي! كنت ألتقط المظروف لأقرأ بخطها (جمهورية العراق-نينوى) وفي ذلك الوقت كانت العراق تملأ مجالسنا وحكاياتنا ولا تغادر مخيلتنا صور رسمناها لما نسمعه عن بغداد والبصرة ومباهجها، والأغاني العراقية الراقية تملأ الأسماع وتدير الرؤوس، وتعصر الأفئدة بلحنها وكلماتها المحببة. كنا صغاراً لا نعرف شيئاً عن معاني تلك الكلمات العراقية التي تقطر حباً وحزناً، فاضل عواد وحسين نعمة وسعدون جابر، وقبلهم كثير من مطربي العراق الكبار أمثال ناظم الغزالي وحضيري بو عزيز.. أولئك الذين كانت أغنياتهم تغمر القلوب بالحب ومواجعه حتى وإن لم تكن قد تذوقته بعد. كبرنا قليلاً وعرفنا فؤاد سالم وصوته الدافىء الحزين وعرفنا عراق الثقافة وعراق العروبة وعراق الشعر.. عراق الجمال في الأرض والأجواء والوجوه.. هيه يا عراق كم أبكاني ذلك الشاعر السبعيني الحزين المفجوع بالعراق.. والمفجوع عليها منه ومن قراره بالهروب منها.
كبير على بغداد أني أعافها
وأني على أمني لديها أخافها
كم هو موجع هذا الإحساس الذي يصبح يتجرعه الشاعر وكأنه ألم معتق فيتساءل ولا يجد جواباً على هذا التحول المخيف لبلاده.
وكنا إذا أخنت على الناس غمة
نقول بعون الله يأتي انكشافها
ونغفو وتغفو دورنا مطمئنة
وسائدها طهر، وطهر لحافها
وماذا جرى للأرض حين تلوثت
إلى حد في الأرحام ضجت نطافها
وماذا جرى للأرض كانت عزيزة
فهانت غواليها ودانت طرافها
أي فجيعة على أرض الوطن تجعل الابن يخاف حضن أمه، فيهرب منها بعد سبعين عاماً من الحب الذي تشربته عروقه من أرضها وأنهارها وأسرار الجمال الكثيرة فيها.. الحب الذي لم يعرف العراقي معه يوماً أجاره من الشيعة أم السنة أم هو من اليهود أم المسيحيين؟ فقد كانت العراق لا تعرف إلا الجمال والحب في كل مكان، ولكنها شاخت أو شوهت ولم تعد كما كانت، فصارت مواويل العراق المشبعة بالأحزان لسوء الحال بين الأحبة.. أكثر حزناً وهي تحكي أحوال العراق وأبناء العراق وهم ينتشرون في بقاع العالم هرباً من أعز حبيبة لهم!!
سلام على بغداد شاخت من الأسى
شناشيلها.. أبلامها.. وقفافها
وشاخت شواطيها، وشاخت قبابها
وشاخت لفرط الهم حتى سلافها
فهل يلام الشاعر بعد ذلك على الهروب من بغداد.. يهرب مجرجراً أحزانه وذكرياته عن عراق ما عادت كما يعرفها. العراق التي أضاعت كل العراقيين وفتحت أحضانها للشر والدم والقتل. فأفاقوا وأفقنا معهم وهم يرددون مع سعدون جابر :
اللي مضيع ذهب
بالسوق يذهب يلقاه
واللي مضيع وطن
وين الوطن يلقاه؟؟
أليس هذا حال كل عراقي فر إلى هولندا وباريس وألمانيا وأمريكا وهو يتوكأ حلم العودة إلى عراق العز والشرف والشعر والجمال.. عراق الفرات ودجلة وأمسيات الأحبة التي ذاب في أجوائها الحب العراقي الذي تشربته أرضها منذ القرون الأولى والذي ظللنا نردده حتى اليوم مع قصائد السياب وأغنيات لا تتكرر وكأنها هاجرت كما هو حال كل عراقي مهاجر. وإذا كان المهاجر العراقي استوطن في كل مكان فأغنيات العراق القديمة هاجرت إلى قلوبهم وقلوبنا معهم، وإلى ذاكرتهم وذاكرتنا معهم، بعد أن حلت محلها أغنيات لا تشبه العراق الذي كان ولا بغداد التي هجرها أحبابها.
سلام على بغداد لست بعاتب
عليها، وأنى لي وروحي غلافها
فلو نسمة طافت عليها بغير ما
تراح به، أدمى فؤادي طوافها
وهأنا في السبعين أزمع عوفها
كبير على بغداد أني أعافها