منذ اكتمال الدين على يد الحبيب المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومحاولات الميل به من أهل الأهواء مستمرة، إما ذات اليمن وإما ذات الشمال، وكلاهما شمال، فقد حسم الأمر حين قال الله تعالى، {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [سورة المائدة 5/3]".
وصور الانحراف بهذا الدين القويم عن الوسطية متعددة، لكنها ترجع في الغالب الأعم إلى سببين: إما تساهل وتفريط، وإما غلو وإفراط. وكلاهما يهدم الدين، ويفصم عراه، والتفريط قد يجر الإفراط، وليس مع الإفراط إلا الهلاك: «إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين» [رواه أحمد وغيره بإسناد صحيح].
والغلو هو: "مجاوزة الحد المطلوب إلى أبعد منه، اعتقادا بأن ذلك محبوب شرعا"، وهنا تكمن مشكلة الغلو التي تحول صاحبَها إلى آلة لا تفكر، ولا تقبل النصح، بل تتهم الناصح وتحكم عليه بأشد أنواح الأحكام الجائرة، وتترجم جهلها إلى عمل إجرامي تفتك به وتُهلك الحرث والنسل؛ لأنه يعتقد اعتقادًا جازمًا بأن ما يقوم به يوصله إلى رضوان الله تعالى وجنته، وذلك الجهل بعينه، لكنه جهل عميق، لاعتماده على جزم القلب بما فيه من رأي أو فكر أو شرع، حتى يصبح عقيدة يدافع عنها كما يدافع عن روحه وأهله وعرضه، ويكون مستعدا للتضحية من أجل ذلك بدمه وماله، بل ويتعبد الله تعالى بذلك، وهنا مكمن الخطورة.
وغالبا ما نجده اليوم من اعتقاد بعض الشباب المغرر بهم هو من هذا النوع؛ حيث يتقبلون الفكرة الاعتقادية ممن ليسوا علماء، ولا دعاة موثَّقين من علماء، ولكن لأنهم يظهرون أمامَهم بأنهم المنافحون عن الدين، المجاهدون في سبيله، الباذلون أرواحهم من أجل نصرته، وينسى الشاب بحماسته كل أصول تلقي العلم ونقاء مصادره، وفي صحيح مسلم عن محمد بن سيرين ـ رحمه الله تعالى ـ قال: «إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم» فهو لا يعرف من هؤلاء؟!، ولا مَن وراءهم؟! والواقع المأساوي الذي تعيشه الأمة يضغط على حماسته، فتفرط نفسه من يد الحكمة والعقل، فيتغاضى عن التوثق من مصادر علمه، بل جهله الذي بنى عليه قرارا عظيما جدا، ينكث فيه ببيعة شرعية في عنقه لولي أمره، ويولي والديه ظهره، ويتركهما كما قال الأول: تركتَ أباك مرعشة يداه، وأمَّك ما تسيغ لها شرابا، فإنك والتماسَ الأجرِ بعدي، كباغي الغيث يتبع السرابا.
لكن النصوص متضافرة على أن (الهلاك) قرين (الغلو)، "ينشأ نشء يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، كلما خرج قرن قُطع" قال ابن عمر سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "كلما خرج قرن قطع أكثر من عشرين مرة حتى يخرج في عراضهم الدجال" [حديث حسن]. "هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ " قالها ثلاثا. [رواه مسلم]. وهذا خبر نبوي عظيم، ومن أعلام النبوة، يدل على استمرار طلائع الغلاة، وأنها تظهر وتُقطع، ثم يظهر غيرها، حتى يأتي زمن الدجال، كما يقرر قدرهم الغالب، فعلى مرِّ التاريخ لم يقم لأهل الغلو دولة، ولم تجتمع عليهم الأمة، كما قال الإمام وهب بن منبه - رحمه الله تعالى - في الخوارج: "إني قد أدركت صدر الإسلام، فو الله ما كانت الخوارج جماعةً قط إلا فرقها الله على شر حالاتهم، وما أظهر أحد منهم قوله إلا ضرب الله عنقه، ولو مكن الله لهم من رأيهم لفسدت الأرض، وقُطعت السبل والحج، ولعاد أمر الإسلام جاهلية، وإذا لقام جماعة كل منهم يدعو إلى نفسه الخلافة، مع كل واحد منهم أكثر من عشرة آلاف، يقاتل بعضهم بعضا ويشهد بعضهم على بعض بالكفر، حتى يصبح المؤمن خائفا على نفسه ودينه ودمه وأهله وماله، لا يدري مع مَن يكون»، وكأنه يصف ما يجري الآن، فالغلو ـ مهما تلوَّن ـ فوجهه يظل قبيحا قميئا لا يصدر عنه خير أبدا.
كيف يمكن إيصال هذه الصورة الحقيقية عن (الغلو) وأسبابه وأبعاده وآثاره لشبابنا؛ قبل أن يصبح أحدهم خنجرا في كف مجنون، ورصاصة في بندقية حاقد.
ومن المسؤول عن إيصالها؟ وكيف؟ وهل يحق لي أن أقول: ومتى؟.