يُعدُّ مبدأُ الحصانة السياديَّة من أهمِّ المبادئ الراسخة في القانون الدولي، وهو يتَّسمُ بالحساسيَّة الشديدة نظراً لارتباطه الوثيق بمسائلَ تَمَسُّ سيادة الدول ورجالاتها ومسؤوليها، مع اعتبارات مرتبطة بالقانون الداخليِّ والقانون الدوليِّ على حدٍّ سواء. ونظراً لما قد ينتج عن خرق مبدأ الحصانة السيادية من مساس مباشر بسيادة الدولة، وما يترتَّبُ على ذلك من آثار بعيدة المدى في القانون الدولي، فإن احترام هذا المبدأ مرهون بما تمارسه الدول من خلال أنظمتها القانونية وممارساتها القضائية، بما يتَّفق مع هذا المبدأ ويحفظ له تميُّزهُ وأهميَّته في تنظيم وحفظِ العلاقات بين الدول، والمحافظة على احترام الدول وممثليها، تماشياً مع مبادئ وقوانين الحصانة السياديَّة.
ويعني مبدأ الحصانة السيادية؛ عدم خضوع دولةٍ ما، بغير إرادتها، لقضاء دولة أخرى. فلا يجوز لدولة ذات سيادة أن تفرضَ سلطتها القضائية على دولة أخرى ذات سيادة، نظراً لعدم وجودِ دولةٍ تملك الحق قضائياً وقانونياً في الحكم على أفعال دولة أخرى، وذلك استناداً إلى مبدأ الاستقلال بين الدول، إذ أن من المعلوم، بداهةً وقانوناً، أنَّ في فرض إحدى الدول سيادتها على دولة أخرى انتهاكاً وإخلالاً بمبدأ السيادة.
تتأسَّس الحصانة السياديَّة، وفقاً لأحكام القانون الدوليِّ، على أفكار السيادة التامة، والاستقلال، والمساواة القانونية بين الدول. وفي هذا الخصوص، نصَّت المادة الأولى من النظام الأساس للحكم في المملكة العربيَّة السعوديَّة؛ الصادر بالمرسوم الملكي رقم (أ/90) في 27 /8 /1412هــ، على أنَّ: «المملكة العربية السعودية دولة عربيَّة إسلاميَّة ذات سيادة تامَّة...».
ومن جانبٍ تاريخي، تُعدُّ المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية من الدول التي طوَّرت مبادئ الحصانة السياديَّة على مرِّ السنين، وقنَّنت تلكَ المبادئ لتصبح جزءاً من قوانينها الوطنيَّة. وفي هذا نجدُ - على سبيل المثال- في القانون الإنجليزي تكرارَ استخدام بعض العبارات والمصطلحات مثل؛ الكرامة، أو الاستقلال، أو الاستقلال والكرامة، أو المساواة والاستقلال، وهي تُستخدم بشكلٍ يُستنتجُ منه أنَّ فرضَ الولاية القضائيَّة على حاكِم دولةٍ ما يتنافى مع الكرامة الملكيَّة للعاهل، أي استقلاله المطلق عن كلِّ سلطةٍ عليا.
ويهدف مبدأ الحصانِة السياديَّة، أو حصانِة الدولة، إلى منعِ بحث المسائلِ التي تتعلَّق بأفعالِ دولة ما في محاكم دولة أخرى. ولهذا تُعدُّ الحصانة بمثابة الحاجز أو المانع الذي يحولُ دون فرض ولاية محكمة أجنبية، في دولة ما، وممارسة اختصاصها في المقاضاة وإنفاذ الأحكام ضدَّ دولة أخرى.
ويُفهم من هذا أنَّ الحصانة السياديَّة هي امتيازٌ ممنوحٌ للدولة وممثليها، وفقاً للمبادئ الدولية والقوانين الوطنية في هذا الخصوص، بغرضِ المحافظة على سيادتها واستقلالها إزاءَ الدول الأخرى. ولهذا تمتنع محاكم أيَّة دولةٍ عن ممارسة الولاية القضائيَّة في أيَّة دعوى مُقامة أمام محاكمها ضدَّ دولة أخرى. وتضمنُ الدولُ، لتحقيق هذه الغاية، أن تقرِّر محاكمها، من تلقاء نفسها، احترامَ حصانة الدول الأخرى. وهكذا فإنَّ الحصانة السيادية قيدٌ أو استثناءٌ تنصُّ عليه، دائماً، أحكام القانون الدوليِّ والقوانين الوطنيِّة، وبموجبه تخرج الدول الأجنبيَّة ذات السيادة عن اختصاص ولاية محاكم الدولة.
وتشمل الحصانة السياديَّة للدولة جميع الأعمال التي تقوم بها الدولة عن طريق ممثليها، وقد نصَّت على هذه الحصانة المادةُ الخامسةُ من اتفاقيَّة الأمم المتَّحدة لحصانات الدول وممتلكاتها من الولاية القضائيَّة، حيث جاء فيها ما يلي: «تتمتَّع الدولة، فيما يتعلق بنفسها وممتلكاتها، بالحصانة من ولاية محاكم دولة أخرى، رهناً بأحكام هذه الاتفاقية».
ولا تقتصر الحصانُة السياديَّة على الدول فقط، بل تنطبق بالقدر نفسه على قادة الدول، وممثليها، ووكلائها، فلا يجوز لمحاكم دولة ما مقاضاة حاكم أجنبي عن طريق وسائل التقاضي المتَّبعة فيها، لأنَّه يمثِّل دولته ويعمل ويتصرَّف باسمها، ومن البديهيِّ أن تمتد إليه الحصانة احتراماً لسيادة دولته واستقلالها، وتمكيناً لهُ من أداءِ المهام المسندة إليه على الوجه الأمثل، والأمر ذاته ينطبق على مسؤولي الدَّولة وممثليها الذين يتصرَّفون نيابة عن دولهم.
وهكذا، فمن حيث الموضوع يتمتَّع بالحصانِة السياديَّة مسؤولو الدولة بوجه عام، بغضِّ النظر عن مركزهم في تسلسلها الهرميِّ. وقد أيَّدَ هذا الاتجاه قضاءُ المحكمة الدوليّة ليوغوسلافيا السابقة، حيث نصَّت المحكمةُ في إحدى القضايا المعروضة عليها على ما يلي: «ترفض دائرة الاستئناف إمكان إصدار المحكمة الدوليَّة أوامرَ بإحضار مسؤولي الدولة المتصرِّفين بصفتهم الرسمية، فهؤلاء المسؤولون مجرَّد أدواتٍ للدولة، ولا يمكن إسنادُ تصرُّفِهم الرسميِّ إلَّا لها، ولا يمكن خضوعهم لجزاءاتٍ أو عقوباتٍ على سلوكٍ ليس خاصّاً، وإنَّما نُفِّذ بالنيابة عن الدولة. وبعبارة أخرى؛ لا يمكن أن يتحمَّل مسؤولو الدولة عواقب الأفعال غير المشروعة التي لا تُسند إليهم شخصيّاً بل إلى الدولة التي يتصرَّفون نيابة عنها...».
ومن أجل التعرُّف أكثر على هذا المبدأ المهمِّ الذي يُطبَّق في حدودٍ ضيِّقة وقضايا محدَّدة، سوف نتحدَّث عن قوانين وتشريعاتِ كلٍّ من إنجلترا والولايات المتحدة الأمريكيَّة المتعلِّقة بالحصانة السياديّة، نظراً لتطوّر قوانين كلٍّ منهما في هذا الخصوص، مع وجود سوابق قضائية كثيرة يُستند إليها ويُعوَّل عليها في القضايا المماثلة التي تنظرها محاكمهما.
فلو نظرنا لقانون الحصانة الإنجليزي، الصادر عام 1978م، لوجدنا أنَّ المادة الأولى منه تنصُّ على ما يلي: «تتمتَّع الدولة بالحصانة ضدَّ الولاية القضائية لمحاكم المملكة المتحدة باستثناء ما نُصَّ عليه في الأحكام التالية من هذا الجزء في هذا القانون». ويُفهم من هذا أن التشريع الإنجليزي اتجه نحو الإقرار بحصانة الدول، بحيث انَّه لا تجوز مُقاضاة الدُّول ذات السيادة أمام المحاكم الإنجليزية، مع مراعاة الاستثناءات التي أوردها هذا القانون.
وفي هذا الشأن، اتَّجهت معظمُ القوانين والمحاكم الإنجليزيَّة وغيرها إلى التأكيد على أنَّه يتوجبُ على كل دولة ذاتِ سيادةٍ ملزمة أن تحترم استقلال كلِّ دولة أخرى ذات سيادة، وألَّا تَبُتَّ محاكم بلد ما في أعمال حكومة بلد آخر تمَّت داخل مناطق سيادته، ويلزم الانتصافُ من هذه الأعمال عن طريق وسائلَ تتيحها السلطات ذات السيادة فيما بينها. والأمر ذاته ينطبق على مسؤولي الدولة من الأفراد، وذلك لأنَّه إذا كانت الدولة لا تستطيع التصرَّف إلا من خلال الأفراد المنتمين إليها، فإنَّ حصانَة الدولة ستصبح غيرَ ذاتِ أثر، وربَّما بلا قيمة، إذا تمَّت مقاضاة الفرد الذي يتصرَّف نيابة عن دولته.
كذلك، بيّن القانون الإنجليزي، وغالبيَّة القوانين الأخرى، أنَّ الدُّول التي تتمتَّع بعدمِ الخضوع لولاية القضاء في دولٍ أجنبية تُعدُّ ذات سيادة وفقاً لأحكام القانون الدوليِّ العام، وهي التي يُسبَغُ عليها وصفُ الدولة، وتتمتَّع بمظاهرِ السيادة، وفقاً لهذا الوصف، كواحدةٍ من الشخصيات المشمولة بالقانون الدولي.
وللتوضيح، نَودُّ أن نتطرق، هنا، لقضيَّة ذات أهميّة كبيرة ترتبط بحصانة المملكة العربية السعودية السياديِّة، وحصانة مسؤوليها وممثِّليها، وهي القضيَّة التي رُفعت ضد المملكة وضد صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز آل سعود، يرحمه الله، ومسؤولين سعوديين آخرين، من قِبل المدعوِّ جُونز وآخرين، حيث ثبت تورُّط هؤلاء (جونز وآخرون) في الأحداث الإرهابية التي شهدتها المملكة في نهاية عام 2000م، وتم القبضُ عليهم ومنحهم الحقَّ المشروع في الدفاع عن أنفسهم، وبعد ثبوت إدانتهم تدخَّلت حكومات بلدانهم وطلبت من المملكة العفو عنهم، فاستجابت المملكة لتلك المطالب، فأصدر خادم الحرمين الشريفين؛ الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود، يرحمه الله، أمراً بالعفو عن هؤلاء وإعادتهم إلى أوطانهم، تأكيداً على روح التسامح التي يتَّسم بها أولو الأمر القائمون على رعاية شؤون المملكة، وحرصاً على إظهار الجوانب المشرقة للشريعة الإسلامية السمحة، خصوصاً في الجوانب الإنسانيِّة، وتأكيداً على أنَّ العفو عند المقدرة من شيَمِ الكرام. ولكنَّ المؤسفَ أن المعفوَ عنهم لم يُقدِّروا هذا العفو وقاموا بمقاضاة المملكة وبعض مسؤوليها.
وبعدَ عراك طويل ومجهد وعديد من المداولات القضائية، أصدر مجلس اللوردات البريطاني، وهو أعلى سلطة قضائية في بريطانيا، لأنَّه يتمتع بصلاحيَّات المحكمة العليا للبلاد، في شهر أبريل من عام 2006م، حكماً بالإجماع برفض دعاوى المدَّعين المقامة ضد المملكة ومسؤوليها، استناداً إلى مبدأ الحصانة السياديَّة، التي تحمي المملكة العربية السعودية ومسؤوليها من الخضوع لولاية القضاء الإنجليزي بصفته قضاءً أجنبياً عنها. وفي هذا الشأن، أعلن مجلس اللوردات بأنَّه لا يمكن لدولة أن تتصرَّف إلَّا من خلال تصرفات مسؤوليها ووكلائها، فتصرفاتُهم هي تصرُّفات الدولة، وحصانُة الدولة، فيما يتعلق بهم، أمرٌ أساسٌ بالنسبة لمبدأ الحصانة.
وقد استند مجلس اللوردات، كذلك، إلى أنَّ كلمة «دولة»، الواردة في اتفاقية الأمم المتحدة لحصانات الدول وممتلكاتها من الولاية القضائيَّة، والتي تسري بحقِّها حصانة الدولة وممتلكاتها من الخضوع لولاية محاكم دولة أخرى، تشمل ممثلي الدولة الذين يعملون بتلك الصفة. وأكَّد مجلس اللوردات على وجود الكثير من السوابق القضائية التي تُبيِّن أنَّ الدولة الأجنبية تتمتَّع بالحقِّ في طلب الحصانة لموظفيها كما كانت ستطلبها لنفسها لو كانت هي المُدَّعى عليها. وعلى ذلك فقد رأى المجلس أنَّه لا يمكن التحايل على حقِّ الدولة الأجنبية في الحصانة بمقاضاة مسؤوليها أو وكلائها، كما لا يجوز التمييز بين الدعوى ضد المملكة والدعوى ضدَّ الأفراد المُدعى عليهم، لأن تصرفاتهم تُعزى، تبعاً لذلك، للمملكة، وحيثما تنطبق حصانة الدولة لا تكون للمحكمة الوطنيَّة ولاية قضائية يمكنها ممارستها.
ونتيجة لذلك، قرَّر مجلسُ اللوردات أنَّه لا يمكن الادعاء على أيٍّ منهم بالحقِّ المدنيِّ، لأنَّ أعمالهم هي أعمالٌ ذاتُ صبغة رسميَّة، وأيُّ عمل ذو صبغة رسميَّة لا يمكن تقديمه للمقاضاة بناء على الحقِّ المدنيِّ في محاكم المملكة المتَّحدة. وبالتالي فإنَّ الدعوى المرفوعةَ من جونز وآخرين والتي يُطالبون فيها بأنْ تكون للمحكمة الإنجليزية ولاية قضائية على المملكة العربية السعودية، لا تستند إلى أساس، لأنَّه تحت مظلة قانون حصانة الدولة ليس للمحاكم الإنجليزية أيّة ولاية قضائية على المملكة العربية السعودية، أو على أيِّ مسؤولٍ من مسؤوليها، لأنَّ الدولة مسؤولةٌ عن تصرُّفات أجهزتها بما في ذلك الأفراد المنتمون لهذه الأجهزة، فحيثما كان تصرُّف الشخص ضمنَ الإطار الرسمي، فإنَّ تصرفاته هذه لا بد وأن تُنسب إلى دولته، التي تتمتَّع بالحصانة من الولاية القضائيَّة للمحاكم الأجنبية فيما يتعلَّق بهذه التصرفات.
ويُفهم من هذا أنَّه لا يجوز، وفقاً لمبدأ الحصانة السياديَّة في القوانين الإنجليزية، مُساءلةُ رئيس الدولة أو محاكمته، والأمر ذاته ينطبق على ممثلي الدولة ووكلائها، لأنَّهم يتصرَّفون نيابة عن دولتهم، وهذا يستتبع حقَّهم في التمتع بالقدر ذاته من الحصانة الذي تتمتع به الدولة، لأنَّهم بمثابة أدوات للدولة، فلا يجوز أن يُنسب تصرفهم الرسمي إلا إلى الدولة، وعليه فلا يجوز أن يتعرضوا لعقوبات أو جزاءات عن سلوك نُفِّذ نيابة عن الدولة.
ومن الجدير بالذكر أنَّ المحكمة الأوروبية لحقوقِ الإنسان أيَّدت، بأغلبيَّة ساحقة، حكم مجلس اللوردات البريطانيِّ بتمتُّع المملكة ومسؤوليها بالحصانة السياديَّة، وأصبحت تلك القضية سابقة قضائيّة يُستند إليها في قضايا مشابهة، ليس للمملكة فحسب وإنما لأيّة دولة ذات سيادة.
وقد جاء حكم مجلس اللوردات البريطاني وحكم المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان ليؤكدا أمام الدّول والمحاكم أنَّ القانونَّ الدوليَّ سيبقى ويظلُّ هو القانونَ السائد في علاقات وتعاملات الدول ذات السيادة مع بعضها، لأنَّه لا يستند إلى المعاهدات الدولية فحسب، بل يستند كذلك إلى القانون الدوليِّ المتعارف عليه، الذي يتضمَّن آراء الأكاديميين المتخصِّصين ذوي المكانة العلميِّة المرموقة، وقرارات المحاكم، والممارسات الفعليَّة، وعلى إثر ذلك فقد جاء هذا الحكم ليرسِّخ مضمونَ القانون الدوليِّ ويؤكِّده.
أما بالنسبة للولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، فقد نصَّ قانونها المعروف باسم «قانون حصانات الجهات الأجنبيَّة ذاتِ السيادَة» أو Foreign Sovereign Immunities Act، الصادر عام 1976م، على أنَّ الدول ذات السيادة وممثليها ومسؤوليها يتمتَّعون بالحصانة، مع وجود بعض الاستثناءات التي تضَّمنها هذا التشريع. وبهذا يُوفِّر هذا القانون نفسَ الميِّزات التي يوفِّرها القانون الإنجليزي للدول ذات السيادة.
وفي هذا الإطار، عدَّت بعض محاكم الولايات المتحدة الأفراد بمثابة (أدواتٍ) للدول الأجنبية، بموجبِ قوانين الحصانات السياديَّة الأجنبية. وقضت المحكمة العليا للولايات المتحدة بالحصانة المطلقة للعاهل الأجنبي في العديد من أحكامها، استناداً إلى أنَّ حصانة رئيس الدولة مُستمدةٌ من الحصانة التي تتمتع بها دولته ككيانٍ مُستقلٍ له سيادةٍ لا يجوز إخضاعه للسُّلطة القضائيَّة لدولةٍ أجنبيّة.
ومن السوابق القضائيّة التي رسَّخت الحصانَةَ السياديَّةَ في الولايات المتحدة الأمريكية، القضيةُ التي رفعها المدعو برويت ضدَّ منظمة الأقطار المصدرة للبترول (أوبك)، حيث أصدرت المحكمة الابتدائية الفيدرالية في ولاية ألاباما الأمريكيَّة، في 22 مارس 2001م، حُكماً غيابياً ضد منظمة أوبك، ولكنَّ أوبك قرَّرت عدم المثول أمام المحكمة الأمريكيّة لكونها تتمتع بجميع حقوق ومزايا الدول المستقلة، بموجب القانون الدوليّ والقانون الأمريكيّ، وذلك على أساس أنَّها منظمة دوليّة لها شخصيّة اعتباريّة، وفقاً لقانون دولة المقر (النمسا) وتمثِّل دولاً ذات سيادة. وقد ترتَّب على هذا قيامُ رئيس المحكمة بإصدار أمرٍ بإبطال الحكم النهائيِّ الصادر ضدَّ منظمة أوبك، استناداً إلى العديد من الأسس والأسانيد القانونية منها؛ قانون عدم المساس بسيادة الدُّول الأجنبية، ومبدأ حقِّ الدول في التصرُّف في ثرواتها الطبيعية.
وفي قضيَّة مماثلة؛ قام المدعو جاكسون بمقاضاة جمهورية الصين الشعبية، بيدَ أنَّ الأخيرة رفضت المثول أمامَ المحكمة الأمريكية، واستندت، في ذلك، إلى الحصانة التي تتمتَّع بها كدولة ذات سيادة لا يجوزُ إخضاعها لولاية المحاكم الأجنبية، وانتهت القضية لصالحها.
وهكذا، فإن قانون الحصانة السياديَّة الأجنبية يمنع المحاكم الأمريكية من بسطِ ولايتها القضائية على الدول الأجنبية، بما في ذلك ممثِّلو هذه الدول والأجهزة التابعة لها. كما أنَّ الشخصيَّات الاعتبارية المستقلَّة والجهات أو الهيئات الحكوميَّة التابعة للدولة الأجنبيَّة وكذلك الشركات المملوكة لها مثل شركة الزيت العربية السعودية (أرامكو السعودية) على سبيل المثال، تتمتَّع بالحصانة بموجب هذا القانون، فيما عدا ما يستثنى من نشاطاتٍ حدَّدها القانون نفسه، حيث يمنح قانون الحصانة السيادية الأجنبية الاختصاص أو الولاية القضائية للمحاكم الأمريكية على الدول الأجنبية ومسؤوليها في حالات استثنائيةٍ محددة تشمل انخراط الحكومة الأجنبية في نشاطاتٍ تجارية معينة، أو رعاية الإرهاب، أو مخالفة التزامات تعاقدية ترتب عليها إضرار بالآخرين.
وقد ظهرت في الأعوام القليلة المنصرمة حملة يقودها أفراد من أصحاب المصالح الذاتية في الولايات المتحدة الأمريكية، تستهدفُ مقاضاة حكومةَ المملكة العربية السعودية عن وقائع وأحداثٍ ترتبط بالهجمات الإرهابية التي شهدتها الولايات المتحدة في الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001م. إذ يزعم هؤلاء أن للحكومة السعودية علاقةً بهذه الهجمات، وعلى إثر ذلك قاموا بمقاضاة حكومة المملكة أمام المحاكم الأمريكية.
وردًا على ذلك أصدرت إحدى المحاكم الأمريكية؛ وهي المحكمة الجزائية لمنهاتن، أحد أحياء مدينة نيويورك، حكماً يتضمن إسقاط التهم الموجهة إلى المملكة العربية السعودية من قبل عائلات ضحايا أحداث الحادي عشر من سبتمبر لعام 2001م، ورفض دعوى المدعين المتضمنة اتهام المملكة بتقديم الدعم المادي لتنظيم القاعدة المتهم الوحيد في هذه الأحداث الإرهابية.
وتبعًا لذلك، رفضت المحكمة دعوى المدَّعين، في تاريخ 29 سبتمبر 2015م، وقضت بأنَّ المملكة العربية السعودية دولة تتمتع بالحصانة، وبالتالي لا يمكن مقاضاتها بشأن دعاوى التعويض المرفوعة ضدها.
كما رُفعت أيضاً عدَّة قضايا أخرى ناشئة عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م، ضد أشخاص سعوديين أو ضدَّ حكومة المملكة العربية السعوديَّة، حيثُ قام العديد من ذوي ضحايا الهجمات على برجي مركز التجارة العالمي في مدينة نيويورك، بإقامة دعاوى مدنية، ضدَّ حكومة المملكة العربية السعودية وجهاتٍ أخرى، مطالبين بالتعويض عن الخسائر والإصابات التي لحقت بهم. والمدعون هم أشخاص تعرَّضوا لإصابات في تلك الهجمات، وكذلك أسَرٌ وممثلو أشخاصٍ توفوا في الهجمات، وشركات التأمين التي تغطي الخسائر التي لحقت أصحاب المباني والشركات.
وقد زعم المدَّعون، في دعواهم ضدَّ المملكة، أنَّ الجمعيات الخيرية السعودية هي المسؤولة عن تطوير ونمو شبكة تنظيم القاعدة، التي كانت وراء الهجمات، كما زعم المدَّعون، أيضاً، أنَّ الحكومة السعودية كانت مسؤولة بشكل مباشر لأنَّها أشرفت على نشاطات الجمعيات والمتبرعين الأفراد، وكانت على علم بأن الجمعيات الخيرية تقوم بتمويل الميليشيات المقاتلة بدلاً من تقديم الإغاثة الإنسانية، ومن تلك الدعاوى ما يلي:
• القضية الأولى (بورنيت ضدَّ البركة للاستثمار والتطوير، المتعلقة بالهجمات الإرهابية)
وقد أقرَّت المحكمة الجزائية للمنطقة الجنوبية من نيويورك طلب المملكة رفض الدعوى لعدم الاختصاص. وفي تلك القضية فشل المدعون في إقناع المحكمة بأنَّ ما قامت به المملكة يعدُّ من جملة الاستثناءات الواردة في قانون الحصانة.
• القضية الثانية (مُتعلقةٌ بالهجمات الإرهابية في 11 سبتمبر 2001م)
وفيها أيَّدت محكمة استئناف الولايات المتحدة للدائرة الثانية حكم محكمة المقاطعة الفيدرالية برفض الدعوى ضد المملكة لعدم الاختصاص.
• القضية الثالثة (شركة التأمين الفيدرالية وآخرون ضد المملكة العربية السعودية المتعلقة بالهجمات الإرهابية في 11 سبتمبر 2001)
وفيها رُفض طلب المُدَّعي إعادة فتح ملف القضية التي صدر فيها حكمٌ لصالح المملكة، ورُدَّت تلك الدعوى ضد المملكة عملاً بقانون الحصانة.
وفي الخامس والعشرين من شهر سبتمبر عام 2015م، رفضت المحكمة الجزائية للمنطقة الجنوبية في نيويورك القضية المرفوعة ضد المملكة مرَّة أخرى لعدم الاختصاص وفقاً لقانون الحصانة المشار إليه.
ومؤخراً صدر حكمٌ من المحاكم الأمريكيّة لصالح المملكة يؤيّد هذا التوجّه، ويكشف لنا، بجلاءٍ، عن تمسّك القضاء الأمريكي بقانون الحصانة السياديّة، والحرص على تطبيقه. حيث أصدرت محكمة مقاطعة نيويورك الجنوبية، في 10 مارس 2016م، حكماً يقضي بعدم مثول المملكة كمُدّعىً عليه، في دعوى مقامة من أهالي ضحايا هجمات برج التجارة العالمي، لأنَّها دولةٌ ذات سيادة لا يجوز بأيّ حال من الأحوال مقاضاتها ومساءلتها أمام القضاء الأمريكي.
وجدير بالذكر أنَّ حكم إعفاء المملكة قد صدر بالرغم من قيام بعض أصحابِ المصالح الذاتية المشبوهة، الذين يقصدون تشويه سمعة المملكة والإضرار بمصالحها، بالتعاون مع الذين يُشجعونهم ويؤازرونهم وعدد من الإعلاميين الأمريكيين، لإقناع عائلات ضحايا أحداث الحادي عشر من سبتمبر بمقاضاةِ حكومات الدول الأجنبية، ومن بينها الحكومة السعودية، وبالتالي مطالبة الكونجرس الأمريكي بتعديل قانون الحصانة السيادية للدول الأجنبية، حتى يتمكنوا من مقاضاة الدول الأجنبيَّة، بما فيها المملكة العربيّة السعوديّة، في المحاكم الأمريكية.
ومن المؤسف أنَّ مجلس الشيوخ قد أعلن إجازةَ مشروع هذا القانون بتاريخ 10 /8 /1437هـ الموافق 17 /5 /2016م. وبالتالي فإنّه سوف يأخذ مشروعُ التعديل طريقَه إلى الكونجرس لإقراره قبلَ أن يرسَلَ إلى الرئيس الأمريكيِّ لاعتماده كقانونٍ وفقاً للقانونِ الأمريكيِّ.
ويُفترض أن يرفض الكونجرس الأمريكي، والحكومة الأمريكية، الانسياق وراء هذا التوجّه. ومن وجهة نظرٍ قانونيةٍ صرفةٍ؛ ينبغي على الكونجرس الأمريكي عدم الموافقة على مثل هذه المطالب، من البداية، منعاً لإحراجِ الكونجرس والحكومة الأمريكية جراء تبعات تعديل هذا القانون. ولكن في ظلّ سيطرة أجواء الانتخابات على الساحة الأمريكيّة في الوقت الحاضر، ليس انتخابات الرئاسة فقط، بل وانتخابات مقاعد الكونجرس، فإنّنا لا نستغرب أن يكون إرضاء الناخبين هو الاهتمام الأوّل لدى السياسيين في هذه المرحلة، وذلك بعيداً عمّا قد يكون له من تبعات.
وهنا، لابدّ من الإشارة إلى أنّ الرئيس الأمريكي؛ باراك أوباما، رفض تلك الدعوات، وحذَّر من مغبّة التداعيات القانونيّة، على الولايات المتحدة وحكومتها ومؤسساتها، لمساءلة المملكة أو غيرها من الدُّول ذات السيادة أمام القضاء الأمريكي.
كما لوّح الرئيس أوباما باستخدامه حقّ النقض، الذي يُتيحه له القانون، ضد مشروع أيّ قانونٍ، ومن المؤكّد أن الرئيس الأمريكي لم يتبنّ هذا الموقف من فراغ، ولكن، لأنَّه رجل قانونٍ، فإنّه يُدرك أنَّ مثل هذا الإجراء سوف يفتح الأبواب، على مصراعيها، للتعامل بالمثل، وبالتالي لمقاضاة أمريكا، كدولةٍ وحكومة، خارج أراضيها وأمام محاكم أجنبيةٍ، وهو أمرٌ من المؤكّد أنَّ الولايات المتحدة لا ترغب فيه البتّة. وإلا فإنّها ستصبح عُرضَةً لسيلٍ من القضايا ضدَّها في محاكم أجنبية. ولا يتَّسع المجال هنا للتطرِّق إلى الاتهامات والقضايا التي سيوجِّهها الغير ضدَّ أمريكا، ولكنَّها ستكون بكلِّ تأكيدٍ كثيرة جداً.
والجديرُ بالذكر أنَّه في حال نجح اللوبي، الذي يقفُ خلفَ مشروعِ التعديل، في إعادة المشروع لمجلس الشيوخ والكونـجرس بـعـد نقضه مـن الرئيس، وعند ذلك لا يمكـن تمريره إلا بتصـويتٍ يحوزُ على تأييد ثلثيّ أصوات الـمجـلسيْن. وإذا حصل ذلك فإنَّ التعديل يصبح نافذاً بقوَّة القانون ولا يمكنُ للرئيسِ استعمالُ حقِّ النقضِ مرَّة ثانية. وهنا تجدرُ الإشارة أيضاً إلى أنَّ إجراءات التعديل تستغرق وقتاً طويلاً في الحالات العادية، ولكن يبدو أنَّ المصالح الذاتيَّة تغلب هنا، وبالتالي قد ينجحُ اللوبي في تمرير هذا التعديل، ولكن من غير المتوقّع ـ إن تمّ ذلك ـ أن يكونَ في ولاية الرئيس أوباما الحاليّة.
ومما سبق يتضح لنا أنَّ أحكام ومبادئ القانون الدوليِّ تنظر إلى الحصانة السياديَّة للدولة على أنَّها عنصرٌ من عناصره، كما يُقِرُّ عددٌ لا حصر له من التشريعات والقوانين الداخلية للعديد من الدول المتقدمة والنامية بمبدأ حصانة الدولة، وتقبل محاكمها الدفع به، لأنه جزء من قوانينها المستمدة من القانون الدولي المتعارف عليه.
وقد رأيت، عن كثب ومن واقع الممارسة العمليَّة، مدى الاحترام الكبير الذي يحظى به مبدأ الحصانة السياديَّة أمام القضاء، إذ أن التصرفات الصادرة عن دولة ذات سيادة يجب ألا تكون عرضة للمقاضاة والحكم عليها في محاكم دولة أخرى ذات سيادة، لأنَّ هذا الفعل من شأنه تعكير صفو العلاقات الدوليَّة والروابط السلميَّة بين الدول التي تهدف إلى تحقيق الأمن والاحترام المتبادل بينها.
ولكن من المخجل أن نرى دولةَ القانون، الولايات المتحدة الأمريكية - كما ترى نفسها - تقومُ بتعديل قوانينها لإلصاقِ تُهمٍ غير نزيهة، وبدونِ حقٍّ، وبشكلٍ رجعيٍّ على دول ذاتِ سيادة لا يمكن مقاضاتها بأيِّ شكل من الأشكال وفقاً للقوانين الوطنيّة والدوليّة والمبادئ الراسخة المتَّبَعة والمتعارف عليها لسنين طويلة. وهنا تجدرُ الإشارة إلى البون الشاسع بين هذه القوانين الوضعيّة التي تفتقر إلى الحياديّة وشريعتنا الإلهيّة السمحة التي تصلح لكل زمان ومكان، والتي لا يمكن بأيِّ حال من الأحوال أن يغيِّرها البشر ـ كائناً من كان ـ أو يوظِّفها لمصالح ذاتيّة كما تفعلُ دولةُ القانون وحاملةُ لواءِ العدالة والإنسانيّة ـ كما تدّعي ـ في العالم اليوم.
ختاماً أرى أنَّ هناك ضرورةً للعمل الحثيث من جانبِ المملكة لاستباق الأحداثِ المتسارعةِ والاستعدادِ للتصدِّي لهذه الأباطيل التي تستهدف إقحام المملكة في تبعاتِ هجمات الحادي عشر من سبتمبر، ضاربةً عرضَ الحائط بكلَّ نتائج التحقيقات التي أثبتت ـ بما لا يدعُ مجالاً للشكِّ ـ براءةَ المملكة المطلقة من أنْ يكون لحكومتها أيّ علاقة بهذا الإرهاب.
ينبغي على الكونجرس الأمريكي عدم الموافقة على مثل هذه المطالب منعاً لإحراج الكونجرس والحكومة الأمريكية
الرئيس أوباما حذر من مغبة التداعيات القانونية