تراكمت في الثقافة العربية مفاهيم الاكتفاء والرضا والقناعة بطريقة سيئة تسببت في تكبيل العقول والأجساد عن السعي والبحث عن الجديد وطرق أبواب التغيير، والسبب أنها ربطت خطأ بالدين عندما لم يفرق كثير من الناس بين التوكل والتواكل ومن هنا نشأت الأمثال الفصيحة والعامية التي رسخت لتلك المفاهيم الخاطئة وأوجزت سياسة بعضنا في التعامل مع الحياة يقولون: «عط الخباز خبزه لو أكل نصه» أو «لو باق نصه» ورضوا بهذا الحال واستسلموا للخباز الشره الذي يخبز ويأكل، فينقص من حق الآخرين، أو الخباز الحرامي الذي يسرقهم ليبيع ما سرقه لآخر فيكون ربحه مضاعفاً!!
ما الذي منعهم من البحث عن خباز آخر؟ وما الذي جعلهم يفضلون البقاء على هذا الحال؟ ربما لأنهم لا يريدون الدخول في دوامة البحث، أو ربما لا يريدون تكليف أنفسهم بذل الجهد أثناء عملية استبدال ذلك الخباز بآخر يجيد عمله مع أن الوصول إليه لا يتطلب سوى بضع خطوات فقط!
وحين قالوا: «أمسك مجنونك لا يجيك اللي أجن منه»! أيضاً هم يشجعون على إبقاء الحال على ما هو عليه حتى لو كان هذا سيتسبب بأضرار متنوعة ليس أقلها شأناً البعد عن خط التطور الذي يحسن الأحوال. إنها ثقافة قامت على التخويف من كل جديد، ثقافة محبطة تبعد كل من يتبناها عن الإبداع وتقبل الجديد «بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون» هذا ما مر به الأقوام من قبل، استسلام تام لكل ما يعتقدون، استسلام أعمى العقول عن التبصر في القديم وفي الحديث، ولم يتح لهم هذا عقد المقارنات لتلمس جوانب الصواب والخطأ في كل منهما ليمكنوا عقولهم من الحكم واستخلاص الفوائد.
وعلى الاتجاه نفسه قالوا: «القناعة كنز لا يفنى» وهو قول ادعى بعضهم أنه حديث ويخرج على أنه حديث ضعيف جداً والأهم أنه يتعارض تماماً مع السعي الذي جاء في القرآن ولكنه للأسف أشد تأثيرا على بعض العقول التي فهمت أن القناعة هي الكنز الذي يجب أن يحرص عليه كل الحرص؛ لأنه كلما أخذنا منه تجدد فهو قابل للفناء والنفاد! هذا لأنهم اعتقدوا أن القناعة تتعارض مع السعي واستمرار المحاولات التي تهدف للخروج من دائرة ضيقة إلى أخرى أرحب، ولم يفطن كثير من المتمسكين بهذه الأقوال أن القناعة هي حالة مصاحبة لكل مرحلة من أجل تثبيت النجاحات ومعاينتها من كل الجوانب والاستعداد لمواصلة البناء وفتح أبواب التجديد ولا تعني التوقف عن السعي والبحث عن الأفضل مهما بدا صعباً في بداياته، لم يتوقفوا ليسألوا أنفسهم ما الفرق الذي سنجده بين هذا الحال وذاك؟ ولو لم يكن الأمر كذلك لما دعانا الله إلى السعي في كل جهات الأرض من أجل الرزق ولما نجح كثير من الناس بعيداً عن ديارهم رغم أنهم في حال جيد وكان بامكانهم أن يغرفوا من كنزهم الذي لا يفنى ولكنهم لم يرضوا بذلك واختاروا السعي «فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه» هذا الحال يذكرني بمن كان رزقهم في مكان آخر يبعد عن حياتهم التي اعتادوا عليها بضع مئات من الكيلوات في وطنهم ومع هذا رفضوها خوفاً من الجديد ومتطلبات التغيير ولم يسألوا أنفسهم عن كثير من الغرباء الذين جاءوا من على بعد آلاف الكيلوات وقطعوا المحيطات ليعملوا ويجدوا في طلب الرزق أما هم فاختاروا الركون إلى ما اعتادوا عليه رغم ما يقاسونه، فماذا عن كنز القناعه لماذا لا يغرفون منه؟!
أشخاص كثر ومؤسسات عملية أيضاً ظلوا يعانون من أحوال كثيرة لأنهم لا يستطيعون أن يغيروا ويفضلون أحياناً أن يدفع واحد منهم الثمن بدلاً من أن يشتركوا جميعاً في الاستمتاع بمتطلبات التغيير ومثال ذلك أن يسافر الزوج لمقر عمله في مدينة أخرى وتبقى الزوجة والأبناء في مدينتهم رغم ما في ذلك الوضع من صعوبات تتطلب الانتقال إلى بيت بعض الأقارب، وكذلك هو الحال مع الفتاة التي تغادر بيت أهلها لتعمل وتساعدهم في الارتقاء بوضعهم المادي ولكنها فقط تدفع ثمن ذلك حيث تضطر للسفر يومياً أو أسبوعياً وقد تتعرض لحوادث كثيرة وكل ما يفعلونه لأجلها هو التذمر من عملها البعيد ويصعب عليهم أن يشاركوها حياتها هناك أو حتى يفكروا بذلك. هذا التباعد كانت له آثاره السيئة على العلاقات في كثير من الأسر، فعجباً لمن تكون الحلول في متناول يدهم ثم يعرضون عنها خوفاً من التغيير وتوقع أن الأسوأ مرتبط بالتغيير ولا يتوقعون أبداً أن أمراً ايجابياً سيحدث لأن رغبتهم في التمسك بالقديم وبقاء الحال على ما هو عليه هو الذي يوجههم. معتقد غريب رسخته الأمثال والأقوال رغم الخسائر التي ترتبت عليه.