عذرا.. فبعض العقول تم دهسها بالجهل فانحرفت.. عفوا.. فبعض القلوب تم طمسها بالغفلة فمالت.. صبرا.. فبعض الأنفس تم نكسها بالهوى فاختنقت.. لم يتسع الأفق إلا ببعض الضيق وما ضاق الأفق إلا ببعض الاتساع.. هكذا بدأ مشهد الانتكاس في البصر.. بل الانقلاب في البصيرة.. حين يعدوننا بجمعنا معهم وجمعهم معنا..
وحتى في شهر الصوم تؤكد بعض القنوات ان شياطينها من الإنس في رمضان لا تصفد.. حيث تبقى مرتعا لتطايرهم في كل اتجاه.. فتكثّفت «البروموهات» بوعود لاجتماع بهم قريب.. وهم يبتغون وراء ذلك كل فساد.. فرمضان لا يجمعنا بشر، ولا بذنوب، ولا سفاهات، ولا بلهو..
رمضان لا جمع فيه إلا على خير، وطاعة، ودعاء، وبر.. لم يكن رمضان الكريم موسما للتسوق، والترفيه.. ولم يكن للمتاجرة به.. من يرى هذا الاستنفار الفضائي، وينظر لتلك الإعلانات المملة، والمكثفة التي تدعو إلى متابعة ما سيعرض من بضاعة مزجاة.. مسلسلات، وبرامج تسمى ترفيهية، ومسابقات مشبوهة تستغل وتستغفل الناس بالاتصال المكلف للمشاركة.. يخبرنا بأن بعض المهووسين بالكسب والربح المنحرف يسخّرون شياطين إنسهم التي لا تصفد في إنتاج سلع رخيصة. كل ذلك في موسم غال، وزمن كريم، وشهر فضيل.
ويبقى شد مئزرهم فقط في الانتفاض الساخن لصناعة مواد إعلامية يشكلون فيه تنافسا يختزلونه في السباق المحموم على تقديم تلك المواد بأي وسيلة ما دامت تبرر غاية الربح.. مسلسلات هوائية.. برامج خادعة.. إثارة فاسدة.. أغان عفنة.. فيلهث كثير من الفضائيات الى شراء أعمال فنية لعرضها في شهر الصوم بصرف الكثير من الأموال سواء بالتمويل، أو الإنتاج، أوالشراء بلا رهبة من رب الخلق والشهور، ولا توقير، ولا تقدير لهذا الشهر الفضيل..
ازدواجية مقيتة حين تبث بعض القنوات بعض الطعم من برامج دينية تتضمن ما يشبه الخير.. عاملة بمبدأ ساعة لربك وثلاث وعشرون ساعة لغير الرب.. فلا يكاد ينقضي هذا البرنامج الديني المحسوب بالدقائق، الذي تضمن شيئا من الذكر، والدروس، والعظة إلا ويعقبه مسلسل عفن القصة، ملوث المشاهد، قبيح الكلام.. أو برنامج مليء بالكذب للضحك، والتهريج، والاستهزاء باسم الترفيه والكاميرا الخفية.
تلك التجارة المليئة ببضاعة الغواية، والفساد الأخلاقي، والإثارة الممقوتة.. هذه الأعمال التي وضعت لتسرق أذهان المشاهدين من المسلمين لينصرفوا عن شهر القرآن الكريم والصيام وتكريس متابعة تلك المنتجات الدرامية، والفنية، والإعلامية فاستجاب لها البعض وابتعد عما أراده الله- عز وجل- إلى ما أراده الشيطان.. وَرفَضها الكثير من العقلاء ولله الحمد وما زالوا يرفضونها.
للأسف ان تصفيد شياطين الجن في هذا الشهر المضيء بالروحانية، والمعبّق بالإيمان، والمعطر بالذكر قابله تحرر شياطين الإنس لينطلقوا بأهوائهم، وأفكارهم نحو تنفيذ وصايا الشيطان فبذلوا وابتذلوا الكثير للإفساد، ولم يبالوا بتحمل الأوزار، ولا الذنوب، ولا بالعقوبة من الله الشديد المتعال. لقد تحولت المتاجرة مع الله الكريم ذي الفضل العظيم وفي هذا الشهر وفضله إلى المتاجرة به..
تجارة فاسدة لا تبقى ولا تربح استيقنتها أنفسهم المريضة بأن رمضان هو السوق المربحة عبر بث وإنتاج وتمثيل وصناعة المسلسلات.. وتاجروا بأخلاق ومشاعر الناس بزعمهم أنهم لا يجبرون أحدا.. لكن الله القوي كفيل بهم و«كل نفس بما كسبت رهينة».
ويبقى القول: القرار الحقيقي والخيار الراشد هو ليس بالمطالبة بأن توقف تلك القنوات منتجاتها الفاسدة.. بل القرار والخيار هو في يد كل راع مسؤول عن رعيته، وفي يد كل أب وأم وزوج يخشى الله فيمن تحته فلا يخرب بيته بيده.. أما هم فلا «شرهة» عليهم.. فلا تجعلوا رمضان سوقا للخسارة.. وكونوا عباد الله حقا وقدّروا الله حق قدره، واعبدوه حق عبادته.. ومزقوا وصايا الشيطان.. ولا تنتظروا الاجتماع بهم..