«إن الناس يتبع بعضهم بعضا، ولا يفكرون تفكيرا حرا مستقلا، وكل شيء يظهر عندهم بمظهر خاطئ، والطريق الذي يسيرون فيه لا يدرون الى أين ينتهي، وعلى وجه العموم معتقدات الناس وآراؤهم العامة كلها خاطئة، بل والقلة القليلة من المفكرين ليسوا بأحسن حظا كثيرا من عامة الناس».
حين تقرأ النص اعلاه سوف تسأل: من قائله؟ وما هو اختصاصه؟ وفي أي عصر قال هذا؟ سيقول قارئ: لا ريب في ان من قال هذا النص هو من تلاميذ الفيلسوف «كانط» وفي عصره، فلا فرق في المضمون بين هذا النص وقول كانط: «ما هي الانوار؟ انها خروج الانسان من قصوره الذي هو مسئول عنه، قصور عجزه عن استعمال عقله، دون اشراف الغير، قصور هو نفسه مسئول عنه، لأن سببه يكمن ليس في عيب في العقل، بل في الافتقار الى القرار والشجاعة في استعمال عقلك انت».
وسيسرع قارئ آخر الى القول: لا شك في ان هذا من اقوال سيد قطب الذي يقول ما يلتقي معه في المضمون:
«نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الاسلام أو أظلم. كل ما حولنا جاهلية، تصورات الناس وعقائدهم، عاداتهم وتقاليدهم، مواد ثقافتهم، فنونهم، آدابهم، شرائعهم وقوانينهم، حتى الكثير مما نحسبه ثقافة اسلامية ومراجع اسلامية وفلسفة اسلامية وتفكيرا اسلاميا، هو كذلك من صنع هذه الجاهلية».
وسيحتار قارئ ثالث ثم ينسبه واثقا الى كاتب من كتاب ما بعد الحداثة، فما دام الناس يتبع بعضهم بعضا ومعتقداتهم مريضة، وآراؤهم مظلمة، فلا شك ان صاحبنا ما بعد حداثي يريد للبشر جميعا مستقبلا افلاطونيا، ولا ريب انه موجود بيننا وكلنا لا نراه، فهو مستقبلي ونحن ما ضويون.
«يا صاحبي تقصيا نظريكما..».
هذا ما قاله هوقليطس في عام «500 ق.م» أي انه من المحتمل ان يكون اول نص يطرح الشك في عقائد الناس وآرائهم، لأنهم يقلد بعضهم بعضا ولا يفكرون تفكيرا ذاتيا مستقلا حرا من تأثير الآخرين.
هرقليطس هذا هو الذي تولد من اقواله قانون التغير، او مقولة «كل شيء يتغير الا قانون التغير» «انك لا تسبح في النهر مرتين» وينسب له المحقق الكبير عبدالرحمن بدوي اقوالا اخرى لا تزال حتى الآن مترقرقة بالشباب والنضارة.
من أجمل الاقوال التي يذكرها بدوي لهذا الفيلسوف قوله: «الكلاب تنبح في وجه كل من لا تعرفه» فأنت اذا تصورت بعض الناس كلابا، كما يقترح الشاعر صلاح عبدالصبور، وان بعض الناس «يأتي بما لم تستطعه الاوائل» كما يقترح ابو العلاء، تعرف جيدا ما قاله هرقليطس.