أروع الحكم الشعرية تلك التي لا تصاغ بقالب منطقي جاف خالٍ من الشاعرية، وأجمل القصائد تلك التي لا تتآكل مع مرور الزمن، وإنما هي إما أن تحافظ على مكانتها الأولى، أو تلك التي تزداد توهجًا كلما تقدمت بها السنون.
في قصيدة «من بادي الوقت» للشاعر الأمير خالد الفيصل سنتجول بين الكلمات لمعرفة ما يختبئ وراءها من رؤى شعرية ورؤية شاعرية، وهذا التجلي يتبدى لنا من الوهلة الأولى، إذ إن صوت الشاعر يظهر في منتصف الشطر الثاني من البيت الثاني وذلك في كلمة صغيرة هي عبارة عن جار ومجرور «عنّي» التي اتسع حضورها وازداد توهجها مع البيت الثالث «أسري– وأصوّر– لنفسي»، ثم توالت الكلمات الموحية بحضور ذات الشاعر الخالقة للنص، فقد لمسنا اختفاء صوت الشاعر في البيت الأول، ثم معاودة اختفاء صوته مرة أخرى في الأبيات الثلاثة الأخيرة، لكنه كان شديد الحضور في منتصف القصيدة، وذلك من خلال الصيغ التعبيرية الدالة عليه «عنّي- أسري– وأصوِّر- لنفسي– أخالف- أراجع- أعوامي- وأنوَّخ– فكري– عظامي - بمعاليقي»، ومن يتأمل حال هذه الكلمات سيجد أن ذات الشاعر التي حضرت في الشطر الثاني بقوله «عني» أي جاءت من خلال ياء المتكلم، اختفت قبل الأبيات الثلاثة الأخيرة من خلال نفس ذات الياء الواردة بقوله «بمعاليقي» مما يوحي بأن مقولاته الشعرية «بادي الوقت- طبع الأيّامِ- عذبات الأيّام- لياليهـا- حلو الَّليالي- عجاج الوقت» إنما كان الشاعر يتحدث من خلالها عن علاقته بالزمن المحيط به، وما عبارة الجار والمجرور «عنّي» إلا تأكيد لهذه العلاقة، وهذا ما نكاد نلمسه من خلال كلمة «بمعاليقي» إذ أصبح الشاعر يتحدث عن ذاته من خلال الضمائر المتنوعة الموجودة في الأبيات الثلاثة الأخيرة، وما قوله «لك- يا صاح– دربك– بك» إما أنه كان متناغمًا وفق التقليد التراثي القديم، أو محاورة منه مع الذات الروحية أو الذات الشاعرة.
من يعيد قراءة النص مرة أخرى أو مرات سيكتشف أن روح الشاعر امتزجت بنظرة المتأمل الفيلسوف شعريًّا لا بطريقة منطقية ديناميكية جافة، فالشاعر الحق هو ذلك المتأمل المستفيد من الفلسفة عن طريق التأمل والتفلسف لا الدخول بالفلسفة كونها علمًا يقود إلى المنطق، لأنه في هذه الحالة تنحسر وتتراجع الشاعرية عند الشاعر حينما يقتحم مجال المنطق، حيث يصبح كلامه لغة تقريرية جافة، وهذا ما لم يفعله الشاعر، فقد كان يتعامل بحذر مع هذا الوضع، وهذا ربما هو الذي منح هذا النص كل هذه القدرة على البقاء والرسوخ في عالم على مدى كل تلك السنين.
لقد قسّم العلماء الحكم إلى فرعين: الفرع الأول: الحكمة النظرية وهي الحكمة المرتبطة بالتأمل فيما وراء الوجود أو علم الماورائيّات «الميتافيزيقيا»، وكل مجال لا قدرة للإنسان في الوصول إليه، وهذا النوع لا نلحظه عند الأمير الشاعر خالد الفيصل لاعتبارات عدّة علّ أهمّها أنه ابن أسرة مالكة حملت راية التوحيد في الصحراء العربية وجعلت شريعة رب العالمين منهاجها في السياسة والحكم. النوع الثاني: الحكمة العملية وهي ذات الصلة بما يملك المرء من معطيات بشرية وخيارات إنسانية كعلوم السياسة والإنسان والأخلاق، وكل ما هو متصل بالناس والمجتمع، وهذا النوع نجده بكثافة في قصيدة الأمير الشاعر خالد الفيصل التي بين أيدينا، وعليه سيكون المعتمد في فهم طبيعة تجربته الشعرية من خلال هذه القصيدة.
من هنا سيكون العمل في تفكيك مفردات نص «من بادي الوقت» للوصول إلى ما يمتاز به من تفرد شعري وانفراد شاعري، كما أن ما يميز هذا النص بالنسبة لي كذلك أنه مزيج بين التجديد والتقليد، التجديد القائم على تكثيف الصور الشعرية في النص، والتقليد المعتمد على روح اكتساب عالم التراث الثقافي والفني والشعبي من خلال وجود عدد لا بأس من الصيغ التقريرية «من بادي الوقت هذا طبع الأيّامِ- الوقت لو زان لك يا صاح مادامِ- حتَّى وليفك ولو هيَّم بك هيـامِ» أو من خلال عدد من الحكم التي تناثرت في النص بشكل ممتع، إذ إنها لم تحضر بشكل مقولب منفّر، بل جاءت بأسلوب شاعري، وهو ما سميته في دراسة سابقة لي عن تجربة الشاعر الخزمري «شعْرنة الحكمة، أو تشعير الحكمة»، لكن هذه الحكمة الشعرية التي جاء بها الفيصل نلحظ أنها تتمازج بها ثلاثة عناصر فنية، وهي: اللغة الشعرية المتكوّنة من المفردة والعبارة، والعنصر الثاني: الإيقاع الموسيقي المتراقص في صياغة الجمل الشعرية الآتية بشكل تراقصي يثير في النفس الطرب، والعنصر الثالث: الصورة الشعرية التي حضرت بهذا النص بشكل كثيف متزاحم، حتى أن القارئ سيجد أكثر من صورة شعرية جاءت بشكل متداخل، كما سيمر معنا في هذه القراءة.
كان حضور اللغة الشعرية بالنص حضورًا حافلاً بالاحتفال الشعري والعبارات الموحية بالشاعرية «عذبات الأيّام- تواري مثل الأحـلامِ- عجاج الوقت- أسري مع الهاجس- أخالف العمر- وأنوَّخ ركاب فكري- جال ضوَّه- والما يسوق بمعاليقي- تعترض دربك بلاويهـا- سيّور الأيَّام تجنح» ففي هذا التوظيف تتداخل الأصالة بالتجديد، وتبرز أشكالاً متعددة من الصور الشعرية، والتي سنقف عندها عندما يأتي مجال الكلام عن الصورة الشعرية. أما أشكال الإيقاع الموسيقي فقد جاءت في النص وفق هذه الصيغ الشعرية «عذبات الأيّام- أسري مع الهاجس الَّلي ما بعد نامِ- الماضي لنفسي وأسلَّيهـا- أراجع سالف أعوامي- وأنوَّخ ركاب فكري- بارد عظامي» فكلماتها وعباراتها الشعرية موضوعة بشكل يوحي بالتناغم الداخلي بعيدًا عن الوزن العروضي الخليلي الذي كتبت عليه هذه القصيدة وهو «مستفعلن/ فاعلن/ مستفعلن/ فعلن» بل هو نغم إيقاع جاء ضمن منظومة الشطر الشعري، ومن يتمعن في طبيعة الكلمات أو حال الجمل الشعرية هنا فسيجد نفسه أمام منظومة إيقاعية تتألف من كلمات وصيغ تعبيرية شكّلت أثرًا في النفس لما أحدثه من طرب موسيقي داخلي.
تعتبر الصورة الشعرية من أهم ركائز العمل الشعري الإبداعي، فهي التي تحدد مقومات نجاح هذا العمل أو ذاك، لهذا تعتبر المعيار الفني الرصين في رسم قِيَمه الجمالية الشعرية في النص، لأنها المرآة الحقيقية التي تعكس بصدق وجلاء خيال الشاعر، وتقيس مدى متانة تجربته الشعرية من ضعفها، وهذه الصورة الشعرية التي استعملها الفيصل «عذبات الأيّام- عجاج الوقت- وأصوِّر الماضي- وأنوَّخ ركاب فكري- جال ضوَّه- تعترض دربك- الأيَّام تجنح» جاءت في النص لتزيد من متانته البلاغية وعمقه التصويري، وهناك صور شعرية جاءت بشكل متداخل كما أشرنا لها في الأسطر السابقة «الَّليالي تواري- تواري مثل الأحـلامِ- أسري مع الهاجس- الهاجس الَّلي ما بعد نامِ» التي جاءت بشكل تدعيم لما تمت الإشارة إليه من صور شعرية، لكن هنا أمرا لفت انتباهي، خاصة أنني قارئ جيد لديوانه إذ وجدت انشغال الشاعر بالصورة الشعرية في هذا النص بطابعها المجازي البياني الأمر الذي جعله يترك ما اتسمت به أغلب قصائده من تركيز على مجال علم البديع، حيث تميز الشاعر تميزا لافت الانتباه في خدمة علم البديع، لهذا فضلت الوقوف عند هذه النقطة، قبل الانتهاء من تقديم هذه القراءة.