نعم.. هو كما وصفه الأستاذ خليل الفزيع أفضل من يمثّل «الصمت الصاخب» (جريدة اليوم/ الأحد 6 نوفمبر 2016م). صاخب بالثقافة والإبداع والوفاء والإيثار. ذلك هو الزميل والصديق المثقف الأستاذ/ عبدالرؤوف الغزال الذي احتفت به دار اليوم، قبل أيام؛ بمناسبة انتهاء مدة خدمته. كانت الفترة التي جمعتنا معا في القسم الثقافي من أمتع وأثرى الفترات. سأتفادى، هنا، ذكر أسماء الزملاء والأصدقاء من شركاء الغزال في التحرير الثقافي، خشية أن يسقط اسم أحد منهم سهوا. عايشت، وبقية الزملاء، مع الغزال ضجيج الثمانينيات الثقافي؛ ذلك المنعطف الهام في التجربة الثقافية المحلية على المستويين النقدي والإبداعي، وقد ساهم الغزال كمشرف ثقافي في ذلك الحراك من خلال ما طُرِح على صفحات الثقافة من قضايا فكرية وأدبية. كنا نملأ القسم صخبا، وكان الغزال يكتب افتتاحية اليوم الثقافي أحيانا وسط ذلك الصخب. أتذكر ورق الجريدة المعاد تدويره. كنا نعشق ذلك الورق المصْفَر. كأنه يشكل لنا مصدر إلهام. يكتب الغزال على ذلك الورق مقاله دون أن يشتّت صخبنا تركيزه. يكتب دون أن يشطب عبارة أو حتى كلمة. فكأن شخصا يملي عليه ما يكتب. ومع أن عنوان الافتتاحية الدائم هو (كلمات في الهامش) إلا أن الغزال لا يترك هامشا فارغا على ورقة الكتابة. لذلك تبدو السطور طويلة ومتراصّة. كان يدهشني ذلك التركيز الذي لا تستطيع ثرثرتنا التشويش عليه. وبخلافنا جميعا فإنه لا يعود مطلقا إلى قراءة ما يكتبه بعد أن ينشر. يقول كلمته ويمشي. وربما كتب الزاوية الجميلة الممتعة دون توقيع. وعلى سبيل المثال فقط، لا أحد يعرف سوى الزملاء أن الغزال وراء الزاوية الظريفة (أبيض وأسود). وهي زاوية على شكل تعليقات خاطفة لاذعة لا تخطئ هدفها. ثم اختفت كما تختفي بقية الأشياء الجميلة. قلت عنه يوما إنه «شاعر مع وقف التنفيذ».. وأضفت: كان الغزال يكتب ويكتب، ثم يمنح كتاباته للريح. ويبدو أنه لا يحتفظ إلا بالقليل منها في أرشيفه الخاص. إن كان يحتفظ بأرشيف خاص. كان، دائما، بحاجة إلى «وصاية أرشيفية» تحفظ كتاباته من الضياع. وبحاجة إلى من يلم شتاته، وينتشله من لهاث الصحافة اليومي الذي لا ينتهي إلا ليبدأ، وإلى من يقول له: امنح «النقد» و»الأدب» شيئا من وقتك قبل فوات الأوان. لكن المسألة ليست سهلة على من يبحر في محيط الصحافة المتلاطم. قبل سنوات نشرتُ نصا شعريا جاء فيه: «أنقل الخطوَ في كل منفى/ أصلّي ليشرقَ قوسُ قزحْ/ التشردُ والحلم والأمنياتْ/ عدّة البحثِ عن وردةٍ تنهبُ القلبَ ثم تأخذني للفرح/ تارةً أتعثّرْ/ تارةً أتبعثرْ/ تارةً أحتمي بالعراءْ/ غير أني وفي كل منفىً أمرّ أُلقي بذوري/ فإذا أضَّاحَكَ الوردُ أندسُّ في دمعتين وأرحلْ/ تاركاً قطفَ تلك الثمار لغيري»! وإذا كان هنالك من يجسد روح هذا النص فهو الصديق عبدالرؤوف الغزال. فقد كان أشبه بعابر سبيل يلقي بذور العطاء في كل مكان يتواجد فيه ليقطف غيره الثمار. وليس غريبا أن يخطط لنشاطٍ ثقافي، وعندما تكتمل ترتيباته، يختار له مقعدا في الصفوف الخلفية. كل الزملاء الذين عملوا معه، والأصدقاء الذي تعاملوا معه يعرفون أنه أبعد ما يكون عن تسويق نفسه، وأنه شخص لا تغريه الأضواء. ربما حان الوقت، الآن، وهو يبدأ مرحلة جديدة من حياته، لكي يعود إلى طاولة الكتابة. وأن يجعل الكتابة الأدبية والنقدية جزءا من اهتماماته، كما كانت من قبل.