تم انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية، وقد أثار ذلك درجة كبيرة من الحيرة، التي صعقت مَنْ يقومون بإجراء استطلاعات الرأي، في حين شكل الأمر مفاجأة لوسائل الاعلام، كما انه أذهل أسواق المال. وفي حين أدهش الأمر العديد من أعضاء الحزب الجمهوري، فقد كان الأمر غير متوقع تماما بالنسبة للحزب الديموقراطي، ذلك أن فكرة أن يصبح رجل بمثل سلوك ترامب ومبادئه رئيسا كانت مستحيلة بالنسبة للكثيرين. ولا أقصد بذلك أن هؤلاء كانوا يختلفون معه أو يتمنون خسارته، بيد انهم كانوا يعتقدون أن فوز رجل على شاكلة ترامب أمر غير وارد.
وهذا هو السر وراء خسارة هيلاري كلينتون. فلقد تغير الحزب الديموقراطي الذي قام بترشيحها كثيرا عن ذلك الحزب، الذي قام فرانكلين دي روزفلت بتأسيسه أو الذي قام ليندون بي جونسون بقيادته. فقد كان الحزب يتمركز حول الطبقة العاملة من البيض، ولقد تمحورت حول تلك الطبقة النظرة الليبرالية لفرانكلين دي روزفلت وليندون بي جونسون، مع إضافة هذا أو ذاك حسب ما يتطلب الأمر. ترددت الكثير من الأقاويل حول تقلص أهمية تلك الطبقة. وربما كان ذلك صحيحا، غير أنها لا تزال أكبر مجموعة عرقية واجتماعية في البلاد.
وكما برهن المحللون على ذلك سابقا، فإن تلك المجموعة في خطر. فبإمكان أفراد الطبقة المتوسطة في كاليفورنيا، التي يبلغ صافي دخلها 4300 دولار شراء منزل وسيارة متواضعين، ولكن بالتأكيد ليس بمقدورهم تحمل نفقات تعليم أبنائهم بالجامعة. وهذا هو السبب وراء ذلك الكم الهائل من قروض الطلاب، التي يتحتم على أبنائهم الحصول عليها. يبلغ صافي دخل الطبقة المتوسطة الدنيا حوالي 2600 دولار شهريا. ومنذ جيل مضى، كان بمقدور الطبقة المتوسطة الدنيا شراء بيت صغير في حي متوسط المكانة. أما في الوقت الحالي فقد ضاق بهم الحال حتى لا يقدرون على دفع إيجار شقة سكنية. وفي حين يهتم الليبراليون بعدم المساواة، فإن مَنْ ينتمون للطبقة المتوسطة الدنيا يهتمون ببساطة بكسب ما يكفي من المال كي يحيوا حياة كريمة. ومن هنا تختلف المجموعتان عن بعضهما البعض.
يقول المحلل الأمريكي جورج فريدمان في تعليق له على الانتخابات الأمريكية: لقد تبين أن ترامب كان يفهم تلك المشكلة. كما أدرك أن هؤلاء قد خسروا الحروب الثقافية التي شنها الجيل السابق. فقد قامت الكنيسة وعائلاتهم بتربيتهم وتعليمهم أن الشذوذ الجنسي خطيئة، وكذلك الإجهاض وممارسة الجنس قبل الزواج. ولم تكمن المشكلة في المسيحية التبشيرية بقدر ما تعلقت بالقيم المصيرية، التي بنيت عليها. فقد ارتكب الكثيرون من تلك الطبقة خطايا، ولكنهم كانوا يدركون أن ما يقومون به خطيئة، كما أنهم يدركون المعايير التي تعلموها على الرغم من عدم امتثالهم لها.
وقد فقدت الطبقتان الدنيا والمتوسطة مكانتيهما في غضون قرن من الزمان. كما فقدا الكبرياء النابع من العمل بجد والحصول على مستوى جيد من المعيشة لعائلاتهما. كما وجدا أن القيم، التي كانا يريان أنها قيم عامة قد صارت رهابا وأمراضا ينبغي أن يتخلصا منها كي يكون توجهما السياسي صحيحا. وأصبح من غير الممكن التعبير علنا عن القيم التي تعلماها وهما صغار.
وبذلك لم يصبح لتلك الطبقة الوسطى مكان في الحزب الديموقراطي. فقد صاروا يشعرون بأن الحزب الديموقراطي لا يزدريهم فحسب، بل إنه يقدر المهاجرين وحقوقهم وثقافاتهم أكثر بكثير من تقديره لمعتقدات الطبقة الوسطى البيضاء. ومع صحة ذلك، إلا أن الحزب الديموقراطي لم يكن يقدر المهاجرين بل يقدر الطبقة الوسطى العليا من الجامعيين المنتصرين في الحروب الثقافية.
وعندما ألقت كلينتون خطابها غير العادي عن سلة «الخصال الممقوتة» لدي ترامب، كانت تعبر عن فجوة الازدراء التي حدثت داخل الحزب الديموقراطي بين المتعلمين والطبقة العاملة. فقد قالت بوجود سلتين، إحداهما كانت تحتوي رهاب الشواذ ورهاب الأجانب وكراهية النساء، وأما الأخرى فكانت تحتوي على الفقراء ممن تم تجاهلهم. لم يكن من الواضح إن كانت السلة الثانية من بين الأمور التي تزدريها، ولكن مَنْ بها وبكل تأكيد لم يكونوا محط اهتمام كبير بالنسبة لها. ألقت كلينتون ببيان «الأمور الممقوتة» حتى توضح أن ترامب ليس وحده الذي يعد غير مقبول به، ولكن اتباعه كذلك. ومن الواضح، أنها كانت تعتقد في عدم احتياجها لأصواتهم. غير أنها شعرت بالحاجة لتعزيز إحساس قاعدة مؤيديها بخوضهم لحرب صالحة ضد الشر والفشل. ولكن كلينتون والنخبة لم يفهموا أن تلك الشريحة كافية كي تكون قاعدة لمؤيدي ترامب يمكنه اضافة المزيد من المؤيدين إليها. وبالنظر إلى استطلاعات الرأي، تبين عدم وجود عداوة من جانب النساء تجاه ترامب. في حين قام أكثر من 20% من ذوي الأصول الإسبانية بالتصويت لصالح ترامب. لقد قام ترامب ببناء تحالف لم تكن تعتقد كلينتون في قدرته على بنائه. كما وضعت النخبة فرضيات عن النساء وذوي الأصول الإسبانية وغيرهم تشير ضمنا إلى أنه من المستحيل أن يؤيد ترامب سوى الممقوتين وحدهم.
شعر البعض بالصدمة وقتها من وصف كلينتون لمؤيدي ترامب، فقد كانت مقولة مروعة. فحينها كانت كلينتون تتقدم على ترامب ببضع نقاط، مما يعني أن نصف البلاد تقريبا تؤيده، وهو ما يعني ضمنيا أن نصف البلاد من الممقوتين. لم يدل تصريحها على أنها فقط تنظر للآخرين بعين الازدراء، بل وكونها كذلك سياسية سيئة. ومن أجل أن تفوز بالانتخابات كان عليها أن تحافظ على جميع مؤيديها إضافة إلى جذب بعض من مؤيدي ترامب إلى صفها، غير أن تصريحها عن الممقوتين، أدى إلى انصراف الكثيرين عنها.
لم يكن الأمر مجرد سياسة خاطئة فقط، بل كان يمثل كذلك مشكلة داخلية جوهرية. فقد أصبحت النخبة في الولايات المتحدة -كل الدول يوجد بها نخب ووجودها ضروري كذلك- منغلقة على نفسها بصورة عميقة. يشبه ذلك ما حدث في المملكة المتحدة عندما استشاطت النخبة من نتيجة استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وأهالت النعوت على الأغلبية القليلة، التي صوتت بالموافقة فوصفوا مَنْ ينتمون إليها بأنهم من غير المتعلمين وغير قادرين على فهم الأمور وهلم جرا.
تتراكم التوترات الاقتصادية في المجتمعات في أوقات معينة. تمر أوروبا في الوقت الحالي بنفس التوترات التي تمر بها الولايات المتحدة، بل إنها أشد حدة. تنمو الحركات القومية في العديد من تلك الدول، التي تناصب الاتحاد الأوروبي العداء وتعارض الهجرة غير المقيدة، كما يرفضون السياسات التي تفرض التقشف الذي يؤثر على الطبقات الوسطي والدنيا، دون أن يكون لها أثر كبير على النخبة. يعد ترامب جزءا من تلك المشكلة الأعم. فبينما يرفض القوميون الأوروبيون الاتحاد الأوروبي، يطالب ترامب بإعادة التفاوض على اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية. وبينما يعارض الأوروبيون هجرة المسلمين غير المقيدة، يعارض ترامب هجرة المكسيكيين والمسلمين. وبينما يتحدث الأوروبيون عن إنهاء برامج التقشف، يتحدث ترامب عن خفض الضرائب من أجل حفز الاستثمار.
ولا يهم هنا كون تلك السياسات مناسبة من عدمه، فالقضية هنا تتمثل في أن الفشل الاقتصادي لفترة طويلة يؤدي حتما إلى تبعات سياسية. تمحورت الحملة الرئاسية على حقيقة أن كلينتون لم تفهم الحراك السياسي الآخذ في الازدياد وتجاهلته بوصفه أمرا ثانويا. أما ترامب فقد فهمه حق فهمه، وركز اهتمامه عليه ففاز بالرئاسة. إلا أن الأمر أعمق من ذلك بقليل. فلقد فاز بالانتخابات بالادعاء بأن واشنطن ووسائل الإعلام يتجاهلون المشكلة الاقتصادية. في أثناء الأيام الأخيرة من الحملة الانتخابية، ردد مرارا وتكرارا ادعاءه بأن نخبة واشنطن على وجه الخصوص منعزلة تماما عن واقع الأمريكيين الموجودين خارجها.
يقول فريدمان: «يمكنني أن أوكد بثقة أن ترامب كان السياسي الأفضل. ولقد أحرز فوزا لم يكن كاسحا، ولكنه كان حاسما. تمثلت نقطة الضعف لدى كلينتون في أنها رأت أن وضعها في قلب المؤسسة السياسية يعد أمرا حاسما. فلم تلق بالا لـ «بيرني ساندرز» على الرغم من نقاط قوته، في حين أنها في حقيقة الأمر لم تأخذ ترامب على محل الجد. كما اعتقدت أن تقدمها بثلاث نقاط في استطلاعات الرأي أمر كافٍ. ذلك يعد من قبيل الرضا عن النفس، لكنه يخفي كذلك في طياته عدم فهم لثورة بركان سياسي بين الطبقة الوسطى، إضافة إلى غيرهم ممن شاركوهم الرأي في أن الأمور تسير في الطريق الخاطئ».
لم تتمكن كلينتون من التعرف على مشكلة كبرى، على الرغم من قيام أسلافها في الحزب الديموقراطي بالتعرف عليها (ليندون بي جونسون وفرانكلين دي روزفلت). كما لم يرها كذلك مستشاروها، وبدلا من ذلك كانوا يرون رجلا متطرفا يكيل الشتائم للآخرين ولا يصلح نهائيا لتولي منصب رفيع. ولكن لسوء الحظ، تبين أن الناخبين يكترثون لوقاحة ترامب بدرجة أقل بكثير من اكتراثهم عدم فهم كلينتون.
سوف يلقي البعض بلائمة خسارة الانتخابات على خطاب جيمس كومي مدير المباحث الفيدرالية. ولقد كان لذلك دور دون شك، غير أنه لم يكن دورا حاسما. اختلال الوضع الاقتصادي يؤدى إلى اضطراب سياسي، ولم تستوعب كلينتون أهمية هذا الاختلال الاقتصادي. إن نظرتها بأن الرجال من البيض ممن لم يحصلوا على درجة جامعية يعارضون ترشحها تشير إلى أن الممقوتين فقط هم مَنْ يعارضونها، غير أن هناك سؤالا مهما مفاده: لماذا يعد الرجال من البيض ممن لم يحصلوا على تعليم جامعي هم فقط الممقوتين؟
وعلى كل، فإن الانتخابات تعد مفاجأة فقط، لأن استطلاعات الرأي كانت خاطئة جدا، وربما كان ترامب متقدما منذ فترة ليست قصيرة. يعد تدهور دقة استطلاعات الرأي أمرا جديرا بالاهتمام، ويعود ذلك في الأساس إلى أن كلينتون ربما فكرت بصورة أكثر عمقا في موقفها لو كانت تعرف بتأخرها عن ترامب.
قام ترامب بتنفيذ حملة مسمومة. وشعر محللون أمريكيون بإهانة شديدة بسبب هجومه على جون ماكين، ولا يتعلق الأمر بالسؤال حول جون ماكين بطلا أم لا، بل بقول ترامب بأنه يفضل الطيارين، الذين لم يتم إسقاط طائراتهم على مَنْ تم إسقاطهم فعلا. سيتحتم على ترامب كأي قائد أعلى، مثله في ذلك مثل كل رئيس منذ فرانكلين روزفلت، أن يأمر قواته بالمخاطرة بحياتهم. كيف إذا يمكن لقائد أن يأمر قواته بالهجوم بينما يعلمون أن احترامه لهم سوف يقل لو تم إسقاط طائراتهم؟ لقد حفلت تلك الانتخابات بالتصريحات المهينة. وكانت تصريحات ترامب مهينة بدرجة أكبر من كلينتون، غير أن تصريحات كلينتون كانت هجوما مباشرا على طبقة معينة من الناخبين، وهو ما كان أمرا مروعا بدرجة أكبر. ولكن كان القرار في النهاية للناخبين.
سوف يتولى ترامب الرئاسة، ولقد قام مثل كل المرشحين بقطع تعهدات هائلة. ومن السهل عدم الاكتراث بتلك الوعود كما كان سهلا كذلك عدم الاكتراث بفكرة ترشحه عن الحزب الجمهوري أو فوزه بالانتخابات. وعلى غرار جميع الزعماء السياسيين، سوف يكبح الواقع جماحه. غير أن فهم الواقع بوضوح كافٍ لتحقيق ما يعتقد الآخرون في استحالته هو ما يخلق الزعماء العظام. يجد المحللون السياسيون الأمريكيون صعوبة في تخيل ما ستكون عليه حكومة ترامب، لا سيما أن المعظم اعتقد في عدم إمكانية فوزه بترشيح الحزب الجمهوري. من المهم إذاً أن نحذر من الاستهانة بهذا الرجل.