تبرز منظومة دول مجلس التعاون الخليجي، في قمتها الـ37، التي تأتي متزامنة مع سياقات إقليمية ودولية عاصفة، باعتبارها واحدة من النماذج التكاملية الأكثر استقراراً على المستوى العالمي، ووسط آمال بانتقال التجربة إلى مرحلة أكثر تطوراً، تقترب فيها من النموذج الاتحادي.
وتكتسب «القمة الخليجية» أهمية مضاعفة، مقارنة بقمم سابقة، لاعتبارات عدة، أهمها إلحاح «اللحظة الخليجية» الراهنة بضرورة تطوير التجربة والانتقال بها إلى آفاق جديدة، سواء لجهة حتمية التطوير بحكم توافر البيئة اللازمة والحاضنة على مستويي القيادة والقاعدة، أو لجهة تعاظم التحديات الإقليمية والعالمية وما تفرضه من اشتراطات وتستدعيه من سياسات.
في التاريخ الخليجي، ارتهنت الخطوات التكاملية بأمرين اثنين:
الأول: الاحتياجات والآمال الوطنية لدول الخليج، التي وجدت تجلياتها في الغايات التنموية والسعي إلى توظيف الإمكانات والموارد في إحداث نمو اقتصادي متين وقادر على تلبية تطلعات شعوب المنطقة، وكذلك ضرورة توفير «البيئة الآمنة» القادرة على حماية التطور المنشود. وتعكس كلمات سمو ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان (رعاه الله جل وعلا)، خلال الاجتماع الأول لهيئة الشؤون الاقتصادية والتنموية في مجلس التعاون، حول تكتل اقتصادي خليجي سيكون أكبر سادس تكتل على المستوى العالمي، طبيعة الآمال التي يتطلع إليها قادة الخليج، وهو ما يتطلب جهودا تكاملية أكثر تطورا.
الثاني: البيئات الإقليمية والدولية، وتحديداً في أعقاب سقوط نظام الشاه في إيران أمام «موجة الملالي» التي قادها الخميني (1979)، وما ترتب على ذلك من تنامي «الخطاب الطائفي العدائي» عبر فقه «تصدير الثورة»، وكذلك «الغزو السوفييتي لأفغانستان» (1979)، وصعود الاستقطاب العالمي وانعكاسه على المنطقة عبر ما يُعرف بـ «مبدأ كارتر» (الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر)، ووصولاً إلى اندلاع الحرب العراقية – الإيرانية (1980).
وتنسحب الاشتراطات ذاتها على الواقع اليوم، وإن كانت الظروف الإقليمية والدولية أكثر تفاقما، خاصة مع انكشاف الغايات الخبيثة لإيران، سواء بمسعاها إلى امتلاك السلاح النووي أو بخططها «تثوير المكوّن الشيعي العربي» لخلخلة أوطانه من الداخل والتهديدات الصريحة لجوارها الخليجي، إلى جانب انزلاق العديد من دول المشرق العربي في أتون صراعات داخلية أحالتها إلى دول فاشلة، أو قريبة من الفشل، فضلاً عن «ارتباك النظام الدولي» بعد «النهج الأمريكي الانسحابي»، الذي خطه الرئيس باراك أوباما، وعدم وضوح رؤية الرئيس الجديد دونالد ترامب.
مهددات الاستقرار في المنطقة لا تنحصر تأثيراتها في النطاق الخليجي والإقليمي فقط، بل تنسحب إلى سياقات دولية ممتدة، خاصة في ظل ارتهان الاقتصاد العالمي بشكل رئيسي بمصادر الطاقة، التي تستحوذ منظومة دول الخليج منها على حصة وازنة وذات تأثير، وبالتالي فإن تهديد أمن التزود بالطاقة وخطوط إمدادها، الذي لا تنفك إيران عن التلويح به، يشكل تهديداً مباشراً وحقيقياً للاقتصاد والمصالح الدولية، وهو ما يلقي بمسؤوليات مضاعفة على منظومة دول مجلس التعاون.
وفي سياق ذلك يأتي انهيار النظام العربي، وخروج قوى رئيسية من توازنات الإقليم، يضيف مزيداً من المسؤوليات على النظام الخليجي، الذي تعتبر دوله الفاعل الوحيد القادر على مواجهة التحديات، خاصة في ظل المعطيات الاقتصادية والأمنية والعسكرية والدبلوماسية.
هذه البيئات المعقدة، ومع الاعتراف بما تشكله من ضغط على أجندة القمة الخليجية، إلا أنها تشكل في الآن ذاته مدعاة لتطوير تجربة المجلس، والانتقال بها إلى مرحلة جديدة من العمل المشترك، خاصة في ظل عزم القادة الخليجيين الأكيد على الدفاع عن مصالح الأمة والمضي قدما في بناء الأوطان وتحقيق الأمن والرخاء للشعوب.
التطوير المنشود، الذي قد يكون صيغة اتحادية (وفق ما ينص عليه نظام مجلس التعاون الخليجي)، بحاجة إلى خطة عمل واضحة وجداول زمنية محددة، تكون قادرة على ضبط العمل باتجاه الأهداف المرجوة، وعبر توظيف أمثل للإرادات السياسية والشعبية والطاقات والإمكانات، وبما يحقق الغايات السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية.
تجمع دول الخليج العربي «عناصر وحدوية» عميقة، قادرة على تطوير تجربة مجلس التعاون إلى ما يرقى لـ«الوحدة الخليجية» سيسهم في ميلاد «قطب إقليمي» يضبط إيقاع المنطقة ويوقف انهيارها، وفي الوقت عينه سيكون له تأثير حقيقي على الصعيد الدولي، وهو ما يشكل حسماً لميزان القوى الإقليمي لصالح الأمة كلها.
الرؤى الوحدوية لا تغيب عن فقه قادة الخليج ولا نهجهم، وأيضاً هي حاضرة في وجدان شعوبهم، لكنها ظلت معلقة طوال العقود الماضية لارتهانها بالمشروع الوحدوي العربي، إلا أن تعطيلها اليوم أو إرجاءها يعني بالضرورة مزيداً من الخسارات على صعيد قومي وإسلامي، وهو ما لا يحتمله الواقع العربي المتردي.