يشير المؤرخ البريطاني، إريك هوبزباوم، في كتابه «أزمنة متصدعة»، إلى تراجع دور المثقفين في أوروبا على مستوى معالجة قضايا الشأن العام، والتأثير في موقف الناس منها، بعد نهاية الحرب الباردة. يؤكد هوبزباوم أن المثقفين المستقلين في أوروبا عاشوا فترة مجدهم من نهاية الحرب العالمية الثانية، وحتى انهيار الاتحاد السوفييتي، إذ حازوا الاعتراف بتأثيرهم، خاصة مع إطلاقهم مواقف محتجة على عدد من السياسات والحروب في العالم، كما في حرب فيتنام مثلاً، وقبلها العدوان الثلاثي على مصر، وأيضاً في الحملة البريطانية لنزع السلاح النووي، التي انتخبت الفيلسوف الشهير برتراند راسل رئيساً لها. هذا الدور للمثقفين تراجع بشكل كبير، ونادراً ما نرى مثقفين يتصدون لقضايا الشأن العام بحماسة، ويملكون تأثيراً، فيما نجوم السينما والغناء أكثر إلهاماً للناس.
تشكَّل عصر ما بعد الحرب الباردة على انتصار المجتمع الاستهلاكي، والأهم، على أزمة حادة لكل القيم التقليدية، وعلى رأسها الإيمان بالعِلم، والتقدم العالمي للتفسير العقلي، وإمكانية تحسين حياة البشر. تراجعت قيم التنوير، لتخلفها موجات من القيم المضادة لها، تتجلى اليوم في المشهد الغربي المتصدِّع. في هذا العصر، ليس للمثقف المتسلح بقيم التنوير الدور نفسه، وقد أدى التقدم التكنولوجي و«مجتمع المعلومات» المنبثق عنه، إلى ظهور فئاتٍ من المشاهير، خارج الأوساط الثقافية والأكاديمية، يملكون تأثيراً أوسع في الرأي العام، ويعبرون عن توجهاتهم من خلال الشبكات الاجتماعية والمساحات التي توفرها، دون الحاجة لأي نوعٍ من التأهيل للوصول إلى هذا التأثير.
لم يكن غريباً أن تفرز الشبكات الاجتماعية مشاهيرها غير المثقفين، ولا أن يكون كثير من هؤلاء سطحيين، ضمن أجواءٍ عامة تشجع هذا النمط من التوجهات، لكن الغريب أن بعض المثقفين عندنا، في ظل حالة ممتدة من غياب التأثير لأسباب متعددة (عكس ما يصفه هوبزباوم في حالة مثقفي أوروبا)، فوجئوا بحالة التفاعل الكبيرة مع مشاهير التواصل الاجتماعي، فجنحوا لتقليدهم، وركبوا موجة الشعبوية، وبعد أن كانوا يطرحون أنفسهم ناقدين لما هو سائد، باتوا يبحثون عن شهرة التواصل الاجتماعي، بدغدغة عواطف الناس وغرائزهم، وتبني السائد ورفض نقده، لحصد الإعجاب والانتشار، وأعداد أكبر من المتابعين.
استسلام بعض المثقفين أمام إغراءات شهرة الشبكات الاجتماعية، لم يصنع لهم تأثيراً، بل جعل منهم مجرد تابعين للموجات الشعبوية، التي يقودها سطحيون، ورغم حصدهم عدداً كبيراً من المتابعين، لم يصبحوا قادة رأي، لأنهم تخلوا عن صناعة الرأي ودورهم الثقافي، لصالح السطحية والشعبوية.