هكذا عنون أدونيس ما كتبه عن تجربة النفري.
وأنا أستعيره للكتابة عن الشاعر المبدع جاسم الصحيح، لأنه عنوان يتلاقيان فيه، لأن ما يفجؤك في التجربة هو ما أسميه: (لقاء المنفى).
لم أدر أيهما أشقى على عمري.. منفاي في الأرض أم منفاي في ذاتي؟
هذا التيه بين شقاءين هو إحساس فلسفي حارق. إنه رفض لما هو عليه في الأرض والذات، ويزداد هذا الاحساس رهافة وعمقا:
خوف يمارسني فأهون ما بي
أني أرى الدنيا بعين غراب
ليس غريبا أن تنظر رؤية الجواهري:
أبدأ أنظر الحوادث والعالم
والناس من وراء ضباب
فهذه إحدى عناصر الرومانسية. وهذا الاحساس ينبع من استبطان الذات استبطانا (وجوديا) واستبطان الحياة والناس استبطانا (غرابيا) فيبصر الشر الا أقلهم فيتوه:
لم يعرف التاريخ شر حراسة
من أن يكون المرء حارس وهمه
ثم يسأل فلسفيا مستنكرا:
ماذا أكون أنا إذا ولدت هنا
في الأرض قبل ولادتي آرائي؟
وتتوهج الرؤية الوجودية فيعبر عن فلسفة الأنوار. «ونزه عن النقص ذاتك. فالنقص أن تتبرع للآخرين بأن يكملوك، فلا بد منك لكي تكملك».
حاقدا كرصاص العدو
يمر بي الوقت في سأم
هذه الرؤية، شعرية الفكر أو الوجودية تراها مبثوثة هنا وهناك، في الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي بصورة تجزيئية، أما هنا في شعر الصحيح فنبدؤها كلا متماسكا في لغة مائية تعيد أمامنا المقولة الصوفية (الظاهر والباطن) أو قول البوصيري صاحب البردة:
واختفى منهم على قرب مرآة
ومن شدة الظهور الخفاء.
وإحساس الصحيح ليس إحساسا جافا كما هو الإحساس الوجودي، بل هو إحساس له رقة الضوء: «وتسأل ماذا عن العشب؟/ كيف وطئت على صدره الآدمي بلا رأفة/ بدعة العشب ألا يبوح إلى واطئيه/ تحسس فتارة أحلامه بين رجليك/ إذ تتكسر صامتة كالظلال/ ولا صوت للنعل إذ ينكسر»
أشكر الأستاذ القارئ الذي احتج على عدم ذكري ليس فقط جاسم الصحيح، بل هناك آخرون:
تضيء لهم أشعارهم ووجوهم
دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبة
ومنهم: عبدالوهاب أبو زيد، حيدر العبدالله، علي النحوي، الشيخ علي الفرج، حسن الرميح، أحمد الملا، محمد الحرز، محمد الدميني وغيرهم وغيرهم.