منذ سبعة وثلاثين عاما قدم إلى هذه البلاد من أقصى الشرق البعيد جاء من بلاده المختلفة كل الاختلاف عن الدمام وأهلها وشوارعها. ربما كانت روحه معلقة بأحلام وأهداف كثيرة وكبيرة وربما كان هاربا من حياته هناك لتكون الغربة التي حسب أنها ستكون مؤقتة علاجا لبعض ما يعانيه هناك ولا أظنه كان يعاني فقرا ماديا بل فقرا روحيا، فظل يعمل ويعمل بجد وإخلاص وأمانة بما يطلب منه وما لا يطلب. سافر ذات يوم إلى بلاده ولكنه عاد من هناك وهو يحكي للجميع بأنه لن يعود ثانية فزوجته تخلت عنه وبناته تنكرن له فقرر ألا يعود إليهن، حتى عندما انقطعت العلاقات الرسمية مع بلاده تايلند لم يرغب بالعودة وظل يسير على جدوله اليومي الذي يريده تنظيف السيارة التي يقودها مرة في الصباح وأخرى في المساء وكان مستعدا لتنظيف أي سيارة أخرى لضيوف من يعمل لديهم، كان يغضب إذا اضطر أن يمشي بالسيارة على شارع غارق بالمياة الآسنة ويغضب عندما تأتي موجة الغبار بعد أن يكون قد نظف حديقة المنزل التي يحرص على غسلها بشكل شبه يومي مهما حاولنا منعه عن ذلك فحجته جاهزة دائماً (هنا فيه تراب)، كان يمارس الهروب من روحه بالعمل الرتيب اليومي الخارج عن إطار عمله. بدأ يكبر في السن ويصبح مزعجا أحيانا بتذمره ونفاد صبره الذي كان رفيقه لسنوات طويلة. بدأت أمراض الشيخوخة تظهر عليه ومع هذا هو لا يريد العودة لبلاده وعندما سافر مجبرا لاستخراج هويته الوطنية عاد مسرعا بعد أسبوعين فقط وهو أكثر من ذي قبل، كان مرتعبا من أن نتخلى عنه ونجبره على السفر بلا عودة فكان يقول لكل فرد منا إسطوانته المعهودة عندما ينتهي جوازي سأرحل وينتهي الجواز فيجدده ولا يرحل؛ لأنه بعد زيارته الأخيرة لأسرته أدرك كم هو رخيص عندهم فلم يستقبلوه في بيتهم واكتفوا بأن يقولوا له: ظننا أنك مت!! ولهذا صار يقول: إذا أنهيتم إقامتي هنا ستكونون كمن يرميني في البحر وتارة يقول: إذا عدت لبلادي سأكون مشردا مثل قطط الشوارع!! فكيف نتخلى عن شخص أفنى نصف عمره وربما أكثر في خدمتنا؟ كيف نتخلى عن شخص يردد أسماء أفراد الأسرة ويتبعها بالشكر والامتنان وكأنه يرى فينا طوق النجاة من خوف كبير يعيشه فيما بينه وبين نفسه ويطرده بقوله: أنا هنا (نوم كوي، أكل كوي، فلوس كوي، خلاص الحمدلله) وكوي تعني كويس. أما نحن فقد أدركنا أنه أصبح يجبر نفسه على العمل ليثبت لنا أنه قادر على العمل ويغضب إذا طلبنا منه ألا يفعل ما هو خارج إطار عمله ولكنه يصر فقط ليبقى هنا، فنأسى على حاله ولا نستطيع أن نصدمه بإنهاء إقامته.
في العامين الأخيرين كنا نتناوب على اصطحابه للمستشفيات من وقت لآخر حتى جاء الوقت الذي دخل فيه إلى المستشفى ولن يخرج منه إلا إلى قبره. في أيامه الأخيرة سألناه هل نتصل بأهلك فرفض بإصرار وقد بدا وكأنه عازف عن الاستمرار في الحياة غير مبالٍ بمرضه رغم أنه كان يخاف حتى من صداع بسيط يلم به ورحل غريبا ووحيدا كما جاء أول مرة ولكن الذي اختلف أنه مات ميتة كريمة في غرفة العناية المركزة التي كان يجد فيها من يعتني به طوال الوقت لم يمت كما كان يخشى كقطط الشوارع. في تلك اللحظة من ساعاته الأخيرة التي رأيته فيها قلت الحمدلله الذي سخره لنا سنوات طوالا وسخرنا له في سنواته الأخيرة، والشكر لهذه البلاد التي آوت هذا الغريب الخائف حتى من أهله وقدمت له كل العناية الطبية اللازمة وتساءلنا ترى هل تحققت أمنيته اليوم بالموت الكريم الذي يستحقه كإنسان؟ ربما كان هذا ما يريده فمات آمنا في غربته.