نظرة تاريخية
منذ مطلع القرن العشرين نادى بعض كبار المعماريين أمثال فرانك لويد رايت ولوكوربوزيه بالعمران الرأسي المخطط له والذي يعتمد على الإرتفاع الرأسي مع ترك مساحات مفتوحة بين المباني، ومع شيوع هذا النمط المعماري إقتصر على أماكن وإستخدامات محددة تركزت على المباني التجارية والمكتبية في مراكز المدن، وقد يكون لهذا القبول بالبناء الرأسي في مركز المدينة مبرراته الاقتصادية والاستثمارية على الرغم من وجود بعض السلبيات ولعل أبرزها زيادة الأعباء على الخدمات والطرق والمواقف والأهم من ذلك تهديد الهوية التراثية العمرانية في مركز المدينة وإحداث خلل في الطابع العمراني.
الانتشار والتوسع
ما هي إلا سنوات قليلة وقد استشرى العمران الرأسي في مختلف المدن الشرقية والغربية ولم يعد مقصوراً على المراكز التجارية كما كان في السابق، وقد ساعد على هذا التوجه الرأسي ما وصل إليه العلم من تقدم تقني في الأنظمة الإنشائية والمواد وأساليب البناء بالإضافة إلى الغرور البشري والرغبة الملحة في الارتفاع إلى عنان السماء، وإذا كانت فترة الثمانينات من القرن الماضي قد شهدت إنشاء بعض مباني الأبراج في بعض مدن الخليج مثل دبي وأبوظبي والكويت والرياض وجدة فقد شهدت التسعينات من نفس القرن سباقا محموما لبناء عدد أكبر من هذه الأبراج في المدن الخليجية التي لم تألف هذا النمط العمراني من قبل، وانقضت فترة التسعينات ودخلنا الألفية الثالثة التي يبدو أنها تخبئ لنا ولمدننا الكثير والكثير، وربما تقرأ بعض التحولات المستقبلية الخطيرة في عمران منطقة العليا بمدينة الرياض وحي الحمراء في جدة ومدينة الخبر في المنطقة الشرقية بالإضافة إلى منطقتي الحرم في كل من مكة المكرمة والمدينة المنورة، فهذه المناطق وغيرها تمر بتحولات سريعة وسباق مع الزمن للصعود إلى الأعلى وربما يشجع على ذلك عدم وجود قيود تقنن وترشد من هذا الاندفاع غير المدروس.
رفض المباني الشاهقة
في السبعينات قامت مظاهرات عارمة في شوارع باريس شارك فيها (120) ألف شخص تندد بمشروعات المباني عالية الارتفاع ويطالبون بإنقاذ باريس من المباني العالية ذات الواجهات الزجاجية التي يمكن أن تغطي وجه عاصمتهم الحسناء بقناع شيكاغو ومنهاتن، وفي الثمانينات أعلن المجتمع البريطاني رفضه للعمران الرأسي وتزعم المعهد الملكي للمعماريين البريطانيين حملة معارضة لهذا التوجه، أما المعماري الشهير فرانك لويد رايت الذي نادى في نظرياته المعمارية بالبناء الرأسي المخطط له فقد قال: (إن البناء الرأسي يسبب الدوار لحياة الإنسان)، ويقول أيضاً المعماري الشهير لويس سوليفان: (أن المباني العالية تجعل المدينة فقيرة أخلاقياً وروحياً)، أما مؤتمر المباني العالية الذي عقد في بنسلفانيا في العام 1973م وفي القاهرة في العام 1974م بمشاركة المئات من المعماريين والمخططين والإنشائيين فقد حذر بشكل غير مباشر من المشاكل الاجتماعية والسلوكية والبيئية والاقتصادية للعمران الرأسي.
إيجابيات العمران الرأسي
لا يمكن أن ننكر أن للعمران الرأسي إيجابيات ومحاسن ومنها زيادة العائد الاستثماري والتجاري، وتقليل تكاليف الخدمات مثل شبكات المياه والطرق والكهرباء والمجاري وغيرها، وإبعاد الساكنين عن ضوضاء الشوارع وحركة المرور، وتحقيق مستوى من الإضاءة والتهوية الطبيعيتين، وتقليل مسافات الرحلات اليومية في المدينة، بالإضافة إلى توفير مناطق فضاء حول المباني يمكن استغلالها في الترفيه والحدائق، وإن كانت هذه الأخيرة غير مؤكدة في ظل ما نشهده اليوم من تراص للكتل العالية والأبراج الصماء مع عدم ترك مساحات مفتوحة كافية تفصل بينها.
سلبيات العمران الرأسي
هناك سلبيات كثيرة للعمران الرأسي أبرزها كسر خط السماء في المدينة بخطوط نشاز تتصاعد إلى إرتفاعات شاهقة، وانعدام الخصوصية البصرية وحجب الرؤية والتهوية عن المباني المجاورة، بالإضافة إلى انعدام الراحة والمشاكل النفسية التي قد يتعرض لها المستخدمون، فضلاً عن أخطار الحرائق والحوادث والمخاطر الإنشائية، كما أن العمران الرأسي يشكل ضغطاً على الخدمات والطرق والمواقف وهذا الأمر ملموس جداً في مدينة الخبر التي بدأت تعاني هذه المشكلة.
ضياع المقياس الإنساني
إذا كان الهدف الأساسي من العمران هو راحة الإنسان فإن المباني العالية قد تتسبب في متاعب كثيرة للمستخدمين من المسنين والأطفال وقد تمتد هذه المتاعب إلى مشاكل صحية ونفسية، كما أن هذه الأبراج تفقد جميع الأشياء مقياسها المتعارف عليه وأهمها المقياس الإنساني ومقاييس السيارات والأشجار والمباني منخفضة الارتفاع، وهنا أتذكر أن الدكتور حبيب زين العابدين وكيل وزارة الشئون البلدية والقروية قدم محاضرة قبل عامين تحدث فيها ظاهرة التوسع الرأسي وبناء الأبراج حول المسجد الحرام في مكة المكرمة، وحذر في وقتها من ضياع المقياس الإنساني ومقياس الكعبة المشرفة والمسجد الحرام إذا ما أصبحت -لا قدر الله- في وسط غابة من الأبراج ذات الإرتفاعات الشاهقة، وهذا التحول العمراني الذي بدأ قبل سنوات ولا يبدو أنه سيتوقف قريباً يشكل خطورة يخشى أن تمتد تأثيراتها إلى البعد الديني لمنشآت المشاعر المقدسة.
تدمير التراث العمراني
إن بناء الأبراج والمباني عالية الارتفاع في مراكز المدن على وجه الخصوص يمكن أن يفقد هذه المراكز هويتها وطابعها التراثي العمراني، فالمباني التاريخية والتراثية تكون في الغالب هي الضحية حيث تتعرض للهدم لتحل مكانها أبراج عالية، وما يتبقى منها يضيع في غابة الأبراج التي تكسر خط السماء، ومن الأمثلة على ذلك المدينة المنورة التي بدأت تعاني من ظاهرة الأبراج السكنية المحيطة بمسجد المصطفى صلى الله عليه وسلم منذ أن تمت إزالة جزء كبير من حي "الأغوات" وحي "ذروان" المجاوران للحرم النبوي والتي تعود بعض مبانيهما للقرن السادس الهجري وإستبدالها ببعض الأبراج السكنية.
ما الحل؟
لكي نتقي سلبيات العمران الرأسي غير المخطط له وغير المدروس يتوجب أن تقوم الأمانات والبلديات بإجراء مراجعة دقيقة وفاحصة لظاهرة المباني عالية الارتفاع والأبراج التي بدأت تنتشر بشكل سريع في المدن والضواحي، وأن يتم على ضوئها وبالاستعانة بأهل الرأي والاختصاص وضع الضوابط والتنظيمات التي يمكن أن تقنن من هذا التوجه في سبيل الحفاظ على خصوصية مدننا وهويتها العمرانية التي بدأت تتلاشى في ظل زحف غابات الأبراج الأسمنتية والحديدية، وإذا كنا بالفعل نحتاج لبعض المباني ذات الارتفاعات الشاهقة فيتوجب أن تكون هناك مرشحات لهذا التوجه كي لا نقع في دوامة حضارية واجتماعية ربما من الصعب الخروج منها في المستقبل، لأن تفادي المشاكل قبل حدوثها أفضل بكثير من بذل الجهود وإنفاق الموارد في معالجتها بعد أن تقع الفأس في الرأس.