تمتلئ الحياة بفرص الخير ومجالات التقدم، ويمتلك كل انسان من القدرات والاستعدادات ما يؤهله لاقتناص تلك الفرص، وارتياد تلك المجالات، لكن الناس يتفاوتون في الانتباه لها والمبادرة نحوها.
فهناك من يدرب نفسه على التركيز في النظر،وامعان الفكر، ودقة الملاحظة، في اي ميدان من الميادين التي تحيط به، في العلم او العمل، او السياسة او التجارة، او ما اشبه، فيلمح الفرصة من بعيد، ويلتقط الاشارات، ويستقرىء الاوضاع والاشخاص.
وهناك البسيط المسترسل في حياته واموره، الذي لا يرهق نفسه بتفكير او تحليل، ولا يتجاوز في نظراته السطح اوالظاهر، فتمر عليه الفرص، وتتاح له المجالات، وهو غافل ساه، كأنه لا يبصرها ولا يدركها.
كما ان من يلتفتون الى الفرص ويدركونها يختلفون ويتفاوتون في مستوى الفاعلية والاقدام، لاخذ زمام المبادرة، والتوثب نحو اعمال الخير.
ذلك ان الكثيرين ترد على اذانهم افكار جيدة وتتوافر لهم ظروف مناسبة للانجاز والتقدم لكن عوائق نفسية تقعد بهم عن الاندفاع والمبادرة بينما يفوز بها الشجعان المبادرون.
فالمبادرة هي عنوان النجاح، وهي طريق التقدم وسلاح اغتنام الفرص، واستثمار الظروف والفرد المبادر يحقق الانجازات ويحظى بالمكاسب وكذلك المجتمع الذي يتحلى بهذه الصفة، فانه يتمتع بالحيوية، ويطور واقعه الى الافضل بشكل دائم مستمر.
في القرآن الكريم:
ولأهمية هذه الصفة في حياة الفرد والمجتمع تحدث عنها القرآن الكريم في آيات عديدة، وبأكثر من تعبير فقد ورد الحديث عن المبادرة في بعض الآيات بلفظ المسارعة.
يقول تعالي: (ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين)
ويقول تعالى: (انهم كانوا يسارعون في الخيرات)
ويقول تعالى: (وسارعوا الى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والارض).
والمسارعة في اللغة مصدر قولنا: سارع فلان الى كذا، مأخوذ من مادة "س رع" التي تدل على خلاف البطء وسارع بمعنى اسرع يقال ذلك للواحد، وللجميع سارعوا والمسارعة الى الشيء المبادرة اليه. ونلحظ في الآيات الكريمة توجيه الخطاب الى الجميع وليس الى الفرد فقط لان المطلوب ان تكون هذه الصفة سمة للمجتمع كله في مسيرته ومواقفه، كما ان بعض الآيات استخدمت تعبير المسارعة في الخيرات، بدلا المسارعة الى الخيرات لتعطي ايحاء بعمق حالة المبادرة داخل المجتمع، فالجميع في اطار الخير، لكن هناك من يضاعف سيره ونشاطه لان المسارعة الى الشيء تكون من خارجه، بينما المسارعة في الشيء تكون من داخله.
يقول ابن عاشور: في للظرفية المجازية، وهي تخييلية تؤذن بتشبيه الخيرات بطريق يسير فيه السائرون، ولهؤلاء مزية السرعة في قطعه.
وتحدثت آيات اخرى عن السبق والمسابقة واستباق الخيرات يقول تعالى: (فاستبقوا الخيرات) ويقول تعالى: (سابقوا الى مغفرة من ربكم) ويقول تعالى: (والسابقون السابقون اولئك المقربون).. والسبق: القدمة في الجري وفي كل شيء وتقول العرب للذي يسبق من الخيل: سابق وسبوق. واسبق القوم الى الامر وتسابقوا: اي بادروا ومنه قوله تعالى: (فاستبقوا الخيرات) اي بادروا اليها وقوله عز وجل (واستبقا الباب) معناه ابتدرا الباب يجتهد كل واحد منهما ان يسبق صاحبه.
هذه الالفاظ الثلاثة، المسارعة والمسابقة والمبادرة، متقاربة المعنى الى حد كبير، ومع ان بينها فروقا في الاستعمال في كثير من السياقات الا ان بينها ما يسميه بعض اللغويين بالترادف الجزئي ويراد به ان يستعمل اللفظان او الالفاظ استعمالا واحدا في بعض السياقات دون بعضها الاخر وهذه الالفاظ الثلاثة من هذا القبيل فهي عند الاقتران بالخيرات او العمل الصالح يكون لها المعنى نفسه، وقد كثر لفظ "المبادرة" في الحديث الشريف ولفظ المسارعة في القرآن الكريم اما المسابقة فقد وردت فيهما على سواء.
الاوائل:
المبادرة تجعل الانسان رائدا يقتحم مجالات لم يسبقه اليها غيره، وتدفعه الى تحقيق انجازات لم يتوفق لها احد قبله، فيكون قد شق طريقا جديدا، وفتح افقا اخر امام ابناء مجتمعه ونوعه والذين سيسلكون نفس الطريق بعد ان مهده لهم واكتشفه قبلهم فيبقى هو الاول والمتقدم والسابق بالطبع فان الارتياد والاقتحام لميدان جديد ولطريق لم يسلك لا يقوم به الا كفء شجاع لذلك يستحق الاوائل السابقون في ساحات الخير كل تقدير واكبار فقد اشاد القرآن الكريم بالاوائل السابقين الى الدين والحق يقول تعالى: (والسابقون الاولون من المهاجرين والانصار).
وفي اكثر من آية كريمة يشجع القرآن الانسان على ان يتطلع الى ان يكون الاول في طريق الخير والصلاح، وذلك لا يتم الا بامتلاك روح المبادرة يقول تعالى: (قل اني امرت ان اكون اول من اسلم) ويقول تعالى: (وامرت لان اكون اول المسلمين) ويقول تعالى: (سبحانك تبت اليك وانا اول المؤمنين) والاول هو ابتداء الشيء.
ونجد في حضارتنا العربية الاسلامية اهتماما وعناية بمفهوم الاولية حيث خصصوا بداية كل شيء واوله باسم وعنوان خاص، لتمييزه وابرازه فاول النهار صبح واول الليل غسق، واول المطر وسمي، واول العصير سلاف، واول مولود لابويه بكر، واول كل شيء باكورة، واول الجيش طليعة.. وهكذا.
بل شهدت نهاية العصر العباسي الاول ولادة فن جديد من فنون التاريخ على يد ابي الحسن علي بن محمد بن عبدالله المدائني المتوفى (225هـ/841م) سموه "علم الاوائل" وعرف القلقشندي هذا العلم في كتابه "صبح الاعشى" بقوله: "هي معرفة مبادئ الامور المهمة" اما حاجي خليفة فقد قال عن علم الاوائل في كتابه "كشف الظنون" ما يلي: "هو علم يتعرف منه اوائل الوقائع والحوادث بحسب المواطن والنسب وموضوعه وغايته ظاهرة وهذا العلم من فروع التواريخ والمحاضرات".
وهكذا كان الاهتمام بالتعرف على الرواد الاوائل وتعريفهم وعلى بدايات ظهور الاشياء والحوادث على ايديهم فظهرت مؤلفات كثيرة حول هذا الموضوع منها ما طبع ومنها ماهو مخطوط، منها كتاب "الاوائل" لابي هلال الحسن بن عبدالله العسكري المتوفى سنة (395هـ1005م) والذي طبع اكثر من مرة وكتاب "الوسائل الى معرفة الاوائل" لجلال الدين السيوطي المتوفى سنة (911هـ/1506م) وهو مطبوع ايضا وتنوف الكتب المخطوطة حول الاوائل على ثلاثة عشر كتابا.