لم يأبه لاكثر الامور خوفا واشدها جزعا حتى عندما يخطو تحت رداء الليل الشاحب وشبح الظلام الدامس حيث نباح الكلاب الذي يبدد مفترقات الصمت، ويصهر اسوار السكون.. ويخنق اجواء الهدوء. منذ عشرين عاما لا يزال يخطو تلك الخطوات الواثقة والمتشحة بالصمود وعنفوان التحدي عندما يعود من مزرعته محتضنا مساءه الاخير من كل يوم.
هذه الليلة حين اطبق الليل كعادته على جسد قريته.. وغفت كل اناسها.. وبيوتها.. واشجارها.. وطيورها عدا اصوات تتهادى بين فترة واخرى تصدر ناحية "المقبرة الشمالية" تعلو وتنخفض بين لحظة واخرى.. لم يمهل عقله تفكيرا انعزاليا فهذه الاصوات ليست بالغريبة عليه انها اصوات الكلاب التي اعتادها في كل ليلة واصبحت بوتيرها الانيس الذي يخفف عنه هول الطريق المؤدي الى بيته.
كان نباحها في هذه الليلة على غير عادتها.. مما اضفى استغرابا حائرا لدى هذا الرجل، وساورته الشكوك من كل جانب، وظل في فسحة الظلام يتأمل وينظر ويكتشف اسباب علو الاصوات. عربد بوجهه الذي عبثت فيه بعض تجاعيد الوقت يمينا وشمالا عله يلتقط سبب هذا النباح الذي علا.. وكثر.. وتسارع.. واحدث في قلبه.. ولاول مرة فزعا وهلعا كبيرين.
بدا النباح مضطربا ومختلطا عليه فثمة صوت يتداخل بشكل غريب.. ومع كل نباح يزيد ذلك الصوت ليعبر ارجاء المكان ويعم وينتشر بين انامل الهواء الرقيقة. اخذ يتأمل ذلك الصوت بسمع خافت ثم حاول الاقتراب من مصدره، واسرع بتلك الخطوات الناعسة على ظهر الارض الترابية، وجعلها تدك الارض دكا فالامر في هذا المساء على غير عادته.
احس بقرب الصوت حينما اقترب من الممر الرئيسي للمقبرة الذي تتناثر حوله الاشواك والاعشاب اليابسة في هذا الطريق الموصل للقبور مباشرة. لم يتعجل الامر ويدخل، بل ادار عينيه في المكان الذي يعج برائحة القبور.. وخاطب نفسه:
علي ان احدد مصدر الصوت ونوعه!
اما النوع فقد تعرف عليه فهو صوت بكاء.. بكاء طفل او طفلة. هكذا يبدو في نظره!!
واما مصدره فقد دفعه الفضول السريع من جانبه لان يلهث وراء مكان الصوت بسرعة.. وهاهو يتأهب داخل هذه المقبرة.. ويتماثل للمشي على حيطة وحذر.. كانت القبور المتخمة بالتراب تنظر اليه من كل ناحية، وتطلب منه انقاذ هذه الطفولة البريئة، اما الكلاب فكانت هناك تحملق فيه من بعيد، وتتوسل اليه بأن يبقي هذه الوليمة الصغيرة فربما تسد رمق جوعها الكبير.
تنتشر التعويذات والبسملات في فم الرجل مع كل خطوة يخطوها ومع كل بصمة قدم على قبر كهولة او امومة او ابوة.. او طفولة هاهو يقترب.. يقترب اكثر عند وسط المقبرة حدد القبر تماما أومأ برأسه والتقط الطفلة.. ثم انتشل مهدها بعد ان ازاح بقايا التراب المتكومة تحته حيث الكلاب ازاحت نصيبا منه منذ قليل.
هدأت.. وابتسمت.. قابلها بابتسامة اب وقبلها، ثم اعاد النظر الى كل انحاء المكان.. لم يجد الا القبور المتناثرة والكلاب التي ترمقه بنظرات علها تنال جزءا من ضلوع هذه الطفلة.
فر هاربا ولم يلتفت للخلق! ومشى تحت غطاء الليل المزدحم بالظلمة والسواد.. وظل يكنس عتمة الطريق بعينيه المتمرستين.
عند اختفاء حلكة الليل.. وانقشاع غيمة السكون ومع بزوغ لوحة الاشراق الاولى.. اخذت عصافير القرية تعزف قيثارتها الصباحية المعتادة معلنة بدء يوم جديد. تجمع الناس حول هذا الرجل وطفلته في ساحة القرية الحيرة تلطخ الوجوه.. والغرابة تفغر الافواه.. والنظرات تتشعب مشدوهة.. والاسئلة تتطاير من هنا وهناك!!!
من اىن لك هذه الطفلة يارجل؟!
وكيف جئت بها الى هنا؟!
هل تعرف امها.. اباها؟!
صعق الجميع عندما عرفوا القصة كاملة!!! وذهلوا لحال هذه الطفلة وشردوا بخيالهم تتقاذفهم الحيرة والتساؤلات من كل الاتجاهات..
في ذلك الزحام الذي يلف وجه الساحة بأكمله، وتقص به حتى النخاع برزت من بعيد امرأة تلهث بخطواتها وكأنها في سباق مارثوني كبير وخلفها زوجها يكاد يمزقها بسوطه، بل بوده ان يغرس في جسمها المتهالك سكين احلامه! هاهي تقترب اكثر.. تخترق الصفوف بصعوبة والكل ينظر اليها باشمئزاز.. اطلت برأسها.. تقدمت بضع خطوات ثم انتزعت الطفلة من حضن الرجل.. قبلتها.. واحتضنتها كما تحتضن الشمس ارضها المتجعدة، وامتزجت دموعها بدموع الطفلة والمشهد تطفو عليه التساؤلات وتتقاذفه الحسرات، وتموج به امواج الالم والغرابة!!!
طاهر احمد الزارعي ـ الاحساء
@ من المحرر
لا ادري ياطاهر ماسبب تلك المقدمة الوصفية الطويلة فالحدث لا يستحق كل ذلك.. فالتكثيف مهم في الابداع خاصة القصة القصيرة والشعر.. ايضا الدقة ولعلي اتذكر هنا مقولة لاحد النقاد الكبار يوصي بها احد المبدعين قائلا اوصيك بالدقة لا بالوضوح.. فلا يهم ان تكون واضحا قدر ان تكون دقيقا.. واقصد هنا سياق الحدث والشريط الزمني.. بين العمل ككل..
انت قاص جيد وموهوب فلا تتدخل كثيرا في نصوصك حتى لا تؤثر على عفويتها.. ويمكن ان تتصل بي لتوضيح بعض الامور..