DAMMAM
الخميس
34°C
weather-icon
الجمعة
icon-weather
34°C
السبت
icon-weather
37°C
الأحد
icon-weather
33°C
الاثنين
icon-weather
34°C
الثلاثاء
icon-weather
36°C

ابن سلام هو أول من طبق الإجماع على الشعر

ابن سلام هو أول من طبق الإجماع على الشعر

ابن سلام هو أول من طبق الإجماع على الشعر
ابن سلام هو أول من طبق الإجماع على الشعر
أخبار متعلقة
 
نعثر في المعاجم العربية على تصور ما للغموض، فهو التطامن والتداخل (معجم مقاييس اللغة، ابن فارس، جـ(305/4) يجمع صفات الخفاء والسرية وعدم الوضوح، ويفهم من استشهاد ابن منظور بعبارة لأبي حنيفة، ان الغموض صفة استعيرت من الغمض أي أشد الارض تطامنا (عمقا) يطمئن حتى لا يرى ما فيه (لسان العرب، جـ200/7). تشير عبارة أبي حنيفة الى أن ما يوجد في العمق هو وحده الذي يظل مخفيا وسريا ومجهولا (الدلالة اللغوية للغموض)، وان الغموض هو بمعنى ما معرفة سرية وعميقة. يمكنني ـ إذن ـ أن أربط بين الغموض والحقيقة؛ فالغموض يطلق على السري والمجهول والمخفي، والحقيقة هي ما قيل بطريقة غامضة، وكلاهما يجب أن يفهما فيما هو أبعد من الظاهر (تعريف الحقيقة مأخوذ من امبرتو إيكو، التأويل، ص31). ولد هذا التصور للغموض ما يسميه بول فاين قوة الاثبات أي: تشكل مجموعة (يستخدم كلمة طبقة) تحترف المعرفة، وتضطلع بمهمة توضيحها، وتنظيمها ونشرها (نقلا عن الشعرية العربية، جمال الدين بن الشيخ، ص8) وقد حدث على امتداد تاريخ الثقافة العربية ان وجد علماء احترفوا المعرفة، وشكلوا نخبة هي وحدها القادرة على فهم الغامض وشرحه وتفسيره. هذه الطبقة وحدها، تعرف كيف ترى الاشياء التي تبقى مخفية عن الاخرين ،وتملك القدرة على رؤية ما هو تحت الظاهر، أما الباقون فهم من وجهة نظرها غير موجودين ثقافيا، لذا ينبغي أن يتمثلوا طرق تفكيرها، ويتبنوا مواقفها، ويشاركوا في نشاطاتها لكي يتعلموا، وبعد ذلك يمكن أن يكونوا محميين منها، أو أصدقاء لها، لكنهم لن يرتفعوا أبدا الى أن يكونوا أندادا لها. يوفر هذا الفهم الاولي للتصور الذي ولدت منه الطبقة، فهما آخر للإجماع من حيث هو مجموعة علمية، تعمل وتؤدي دورها وفق مجموعة من الأفكار اتي تعتقد بصحتها، ان الاجماع يجد مجال اشتغاله في المعرفة، ولقد بين الشافعي في فترة متقدمة، ان اجتماع الأبدان لا يصنع شيئا، لذلك لا لزوم للاجماع بهذا المعنى أي اجتماع الابدان، إلا ماعليه الجماعة من التحليل والتحريم والطاعة فيهما (الرسالة، ص475). لقد ولد الاجماع أولا في حقل العلوم الشرعية، وفيما أعلم فإن ابن سلام الجمحي هو أول من طبقه على الشعر، يقول: وقد اختلف العلماء بعد في بعض الشعر، كما اختلف في سائر الأشياء، فأما ما اتفقوا عليه، فليس لأحد أن يخرج منه (طبقات فحول الشعراء، ص4). يعلق جمال الدين بن الشيخ علي عبارة الجمحي بقوله: يشير مفهوم الاجماع، وهومفهوم شرعي، حين يطبق على الشعر الى العلماء بوصفهم هم القادرون على الحكم بأصالة انتاج ما. هذا المفهوم يؤكد في الحقيقة أن كل المعرفة المتعلقة بالشعر ينبغي أن تتشكل في علم يقع تحت سلطة العلماء (الشعرية العربية، ص7). من حسن الحظ ان هذا المفهوم الدخيل على الشعر لم يتكرس، صحيح ان النقاد القدماء اشتغلوا على نماذج شعرية شبه مجمع عليها، نماذج اكتسبوها من سماعهم، أو من قراءاتهم، لكن هذا التقارب الذي تكشف عنه طرق تكوينهم، لم يكرس مجموعة متكاملة من القواعد للبحث عن معنى الشعر، لذلك بقوا يتحركون بين تصورين للمعنى: المعنى من حيث هومرتبط بالتاريخ، ويتحكم فيه قصد معين، في لحظة معينة، والمعنى من حيث هو حقيقة ثابتة في النص. إنني لا أفكر هنا في دليل واحد ملائم لما أناقشه، فلقد قرأ النقاد القدماء نصوصا واحدة بآليات مختلفة كما هو نص (ولما طوينا من منى..)، وتجادلوا في معنى بعض الأبيات الشعرية، وتخاصموا حول انتاج الشعراء مثلما حدث مع انتاج أبي تمام، وفي كل هذا، كانت تتحكم فيهم تجاربهم القرائية، والأعراف الأدبية التي تعلموها، والشكل الشعري الذي أتقنوه، فالعقل لايعرف أولا وأخيرا إلا ما تعلمه. غير أن بيتين من الشعر بقيا مستعصيين على كبار علماء العربية ونقادها كأبي عبيدة والأصمعي وأبي زيد الأنصاري. ينقل جلال الدين السيوطي عن كتاب أبي محمد بن المعلى الأزدي (الترقيص) هذه الحكاية: أخبرنا أبو حفص قال أخبرنا أبو بكر الثعلبي، عن أبي حاتم، قال أبو العلاء العماني الحارثي: لرجل يرقص ابنته: ==1== محكوكة العينين معطاء القفا==0== ==0==كأنما قدت على متن الصفا تمشي على متن شراك أعجفا==0== ==0==كأنما تنشر فيه مصحفا==2== فقلت لأبي العلاء: ما معنى قول هذا الرجل؟ قال لا أدري! قلت: ان لنا علماء بالعربية لا يخفى عليهم ذلك. قال: فأتهم. فأتيت أباعبيدة فسألته عن ذلك فقال: ما أطلعني الله على علم الغيب! فلقيت الأصمعي فسألته عن ذلك. فقال: أنا أحسب أن شاعرها لو سئل عنه لم يدر ما هو. فلقيت أبا زيد فسألته عنه، فقال: هذا المرقص اسمه المجنون بن جندب، وكان مجنونا، ولا يعرف كلام المجانين إلا مجنون، أسألت عنه أحدا؟ قلت: نعم، فلم يعرفه أحد منهم (المزهر في علوم اللغة وأنواعها، دار الفكر، ج (140/1). يشير سؤال أبي حفص: ما معنى قول هذا الرجل؟ إلى أنه لم يتبين دلالة البيتين، و أنه لم يستطع أن يجعلهما دليلا على تجربة، لكي يحدد معناهما. لقد ظل معنى البيتين بعيدا ونائيا، وظل هو في وضع عاجز عن بلوغه، والى ذلك الحين مازال البيتان يخفيان معنى موغلا في الغموض. لا تعني ملاحظتي التمهيدية هذه، اغفال ما أثاره أبو حفص بين ألفاظ البيتين ومعناهما؛ فالتصور الذي يتحرك في خلفية سؤاله هو أن الشعر لفظ موزون ومقفى ودال على معنى، لقد تحقق جزء من التصور، فالبيتان موزونان ومقفيان، وبما أن أبا حفص لم يفهم معناهما، فإن الوزن غير كاف لجعلهما شرا، صحيح انه لم يصرح بأنهما ليس اشعرا، لكن بحثه عن معنى لهما، يشير الى جزء مفقود من تصوره للشعر. ان الرغبة في الوصول الى معنى الأشياء الغامضة خاصية تكاد تنحصر في البشر، الذين يتوافرون على قدرات متباينة على تحمل الغموض، فأبو العلاء الذي روى البيتين لأبي حفص، استطاع أن يقف امام غموض ما سمع من غير اي رد فعل، بينما لم يستطع ذلك أبو حفص، وبهذا فالقدرة على تحمل الغموض تؤدي دورا حيويا في البحث عن المعنى. لذلك ففهم اتجاه الاثنين نحو غموض البيتين أساسي، ذلك أن بحث أبي حفص عن المعنى يستند الى رغبته ـ وهي بطبيعة الحال رغبة انسانية طبيعية ـ لسد ثغرة بين شكه ويقينه. لقد كان غموض البيتين مثاليا بالنسبة لأبي حفص، ليسأل عن معناهما، بينما لم يكونا كذلك عند أبي العلاء؛ لأنهما أغرقا في الغموض فابتعد عنهما. إذا ما تجاوزت هذه الفكرة، فإن سؤال أبي حفص، يعبر عن تصوره للمعنى، فمعنى البيتين يقع خارجه، وماعليه إلا أن يتلقاه مثلما هو، واذا ماتلقاه فسيترتب على ذلك، ان ماتلقاه غير قابل للتطور أو التغير، معنى ليس مؤقتا، بل نهائي، وليس نتاج قارئ تعامل مع مايقرؤه في ضوء مالديه من معارف وذكريات وخبرات. ان ما يمكن أن أصف به أبا حفص هو أنه قارئ كسول، لم يشغل معارفه، وخبراته، وذكرياته التي ينفرد بها، كي يفهم معنى البيتين. مالم ينتبه اليه أبو حفص، أن المعنى ليس شيئا يمكن أن يعطى، إنما يتم من قبله هو نفسه، فهو الذي يقرر ما يعنيه البيتان، كما أن معنى قائلهما يقرره قائلهما نفسه، وبهذا فالبيتان ذخيرة لمعان كان يمكن أن يفترضها، معان لا توجد في البيتين، ولم توجد فيهما قط، وربما لن توجد أبدا، ومع ذلك يمكن أن توجد فيهما. إن الجمل الغامضة، بل الجمل التي لا معنى لها، تحمل كما تحمل الجمل الأخرى أثرا معينا في القارئ، ومهما كان العمل الأدبي غامضا، يستطيع المرء أن يجعله ذا دلالة؛ بأن يعده دليلاعلى تجربة، ويحدد معنى تلك التجربة (وليم راي، المعنى الأدبي، ص174). من هذه الناحية يشبه العمل الادبي خيالنا، حينما نختار أوضح أو أغمض ما فيه، متجاهلين صورا أخرى ونحن نحوك صورنا، وفيما يتعلق بالعمل الأدبي، ما نملكه آخر المطاف، ما يملأ أيدينا، هو المعنى الذي نسجناه، وكل واحد منا يختار المعنى الذي يروي حكايته الخاصة. لقد كان أبو حفص قادرا على تحمل غياب معناه الخاص؛ لأن شكه في حقيقة المعنى الذي سيقرره الآخرون له، يقبع في أدنى مستوى. من يملك المعنى؟ يجيب أبو حفص ضمنيا عن هذا السؤال، وهي اجابة تتفق مع تصوره للمعنى، يقول (إن لنا علماء بالعربية لا يخفى عليهم ذلك). ترى لم (نا) في (لنا) وليس (لي) وهو الذي يبحث عن المعنى؟ انه يعيدنا الى النخبة (علماء العربية) التي تحتكر معنى الغامض، وتفسره وتشرحه، في مقابل (نا) التي صمم دورها في أن تتلقى المعنى، وفي أن تبقى منغلقة، وأن تعيش بلامعناها هي. ليست هذه النخبة لأبي حفص وحده، حتى يقول (لي)، بل لـ(نا)، المجموع الذين لا يملكون معناهم، الناس المغيبين ثقافيا، والذين يشكلون مصدر الخطر الدائم على المعنى. لقد عاش الناس في الثقافة العربية الاسلامية وهم يرزحون تحت التهديد بنار جهنم، ان هم امتلكوا معناهم الخاص، فتقبلوا غريزيا، ان النخبة أفضل منهم وأرقى، هذا العالم من كمال الآخرين خيم فوق طاقاتهم كحمل ثقيل. من هو أبو حفص؟ لا أحد يعرف، لكنه حينما يتلبس (نا) فهو يوجد في موضع من يجب أن يلقن المعنى، ان وظيفته في الحكاية هي: أن يسأل ويتمثل باسم الناس، وأن يغترف له ولهم المعنى من محيط النخبة الديني أو الأخلاقي أو اللغوي، وأن يجد نفسه مثلما هم الناس، مرغما على قبول المعنى، ودوره الأساس هو تقبله والالتزام به. علماء العربية من وجهة نظر أبي حفص، لا يخفى عليهم معنى البيتين، هكذا ـ إذن ـ فهم يعنون بما يخفى على غيرهم، ان الفكرة الأساس هي فكرة معنى متنكر، والفعل (خفي) يحيل الى الستر والكتم والمواراة، وتبعا لذلك فالصورة المحسوسة للبيتين، ومن ثم للعمل الأدبي، هي صورة غيضة غابة يتوارى خلفها المعنى (ابن منظور، لسان العرب، ج (234/12). لكن الجذر اللغوي (خفي) من الأضداد، فإذا كان معناه الستر، فإن معناه أيضا الاظهار (معجم مقاييس اللغة، ابن فارس، جـ (202/2)، والفكرة الأساس في هذه الدلالة هي فكرة معنى ظاهر وواضح، والفعل (خفا) يحيل الى الاخراج والاظهار، وتبعا لذلك، فالصورة الملموسة للبيتين، ومن ثم للعمل الأدبي هي حفرة استخرجت فأظهرت (ابن منظور، سابق، جـ (234/14). تعني الأضداد: كلمة وضعت للدلالة على الضدين (المنشي،رسالة الأضداد، ص139) أي كلمات تنصرف الى معنيين متضادين. ان الجذر (خفي) وهو يدل على ستر وإظهار، يشير الى أن فهم الشيء، يعني أن المرء يدرك ما يعرفه، وأنه يواجه في الوقت نفسه سر هذه المعرفة المخفية، وأننا لانستطيع فهم إلا ما هو معروف لدينا (وليم راي، المعنى الأدبي، ص212). لقد تحدث فوكو عن الاسرار التي تحمل ذاتها على السطح (الكلمات والأشياء، ص52) وايكو عن الحقائق التي تنتمي الى حياتنا اليومية لكنها نسيت (التأويل، ص31)، وفي حديثيهما يحضر مدلولا (خفي) حيث الاسرار والحقائق المنسية تعني (الستر) بينما وجود الأسرار على السطح والحقائق المنسية يعني (الاظهار)، وفي كلا الحالين على المرء ـ لكي يفهم المعنى ـ أن يركز على الحقائق والأسرار التي أخذت خارج السياق لكي تثير اهتمامه. لكي يجد أبو حفص معنى البيتين، قصد على التوالي: أبا عبيدة والأصمعي وأبا زيد، وهم من كبار علماء العربية، لقد عاش هؤلاء العلماء الكبار، في الفترة التي تمتد بين عام (110) تاريخ ميلاد أبي عبيدة (توفي عام 209) وعام (217) تاريخ وفاة الأصمعي (ولد عام 122) وما بينهما أبو زيد الذي مات عام (216) على اختلاف واضح بين العلماء في تواريخ ميلادهم ووفاتهم (ابن خلكان، وفيات الأعيان، ج378/2 ـ 380، ج3/ 170 ـ 176، ج(243/5). لكن الأمر المؤكد أنهم لم يكونوا من رؤوس القوم، أو ينتمون الى قبائل عريقة، فأبو عبيدة من موالي قريش (ابن خلكان، سابق، ج (235/5) والأصمعي ينتمي الى قبيلة باهلة، المرأة التي توفى عنها زوجها، فتزوجها ابنه من امرأة أخرى، مما عيب على القبيلة مدى الدهر (أحمد كمال زكي، الأصمعي، ص17) أما أبو زيد فقد اختلفوا فيه، فقيل انه داخل في الأنصار، وقيل ان الرواة أخطأوا حين نسبوه الى الأنصار، وقيل انه غير سعيد بن أوس (الزبيدي، طبقات النحويين واللغويين، ص165). هنا ليس من دون فائدة، أن نبين أن هذا كله لم يؤثر عليهم لكي يصعدوا، فمن الناحية الاجتماعية كان الأصمعي من مجالسي الخليفة الرشيد (نفسه، ص169)، لكن لا مجال لأن يخدعنا ذلك؛ اذ أن الترقي الاجتماعي، ينبغي أن يفهم على المستوى الفردي، فقد رد جعفر بن يحيى أبا عبيدة لأن مثله من وضعاء النسب لايدخل على الخلفاء (نفسه، ص175). هذه النسبية في الترقي الاجتماعي، لا تمنع أن يكونوا على قدر معقول من الثراء، فأبو عبيدة أعطي آلاف الدنانير بعد أن منع من مقابلة الخليفة (نفسه، ص175) والأصمعي المعروف ببخله، كان من ذوي اليسار؛ بسبب عطايا وهدايا الخليفة والوزراء (أحمد كمال زكي، سابق، ص304). يتعلق الأمر هنا بتسليع الثقافة، من غير أن يكون هؤلاء العلماء مندمجين في الشريحة الحاكمة، أو في البرجوازية الراقية، لكنهم وهم يقدمون على المغامرة، نحو المجد والثروة، ينبغي لهم أن يقدموا على ذلك اعتمادا على مساندة (حول هذه الفكرة، انظر جمال الدين بن الشيخ، سابق، ص68). إن مجتمعا شديد التراتبية كمجتمع هذه الفترة، لا يعارض في أن يسلك مولى كأبي عبيدة، أو أحد أفراد قبيلة مهموزة النسب كالأصمعي، أو مشكوك النسب كأبي زيد، في أن يتعلموا ويترقوا ثقافيا ومن ثم اجتماعيا واقتصاديا. كيف تعلموا؟ يسجل جمال الدين بن الشيخ ملاحظات بصدد تكوين الشاعر وهي تنطبق على موضوعنا، يكفي أن أضع العالم مكان الشاعر يقول: فعالم المستقبل سيلقن في الكتاب ـ بالإضافة إلى مفاهيم أولية مختلفة ـ معرفة القرآن بعد حفظه عن ظهر قلب، هذا حدث جوهري؛ فالقرآن هو التربة الخصبة والمخصبة التي ستغذي الفكر دائما، انه يرسخ في الذهن حاسة اللغة العربية التي لا تقبل التجاوز، ويوفر رصيدا معجميا لاينضب، يقوم البنيات الذهنية، ويحدد كيفيات التفكير التي لاتفارق العالم (الشعرية العربية، ص96). لا تتوفر معلومات دقيقة فيما اذا كان الثلاثة قد حفظوا القرآن، لكن المؤكد أنهم درسوه؛ لأن دراسته هي المعرفة الأولى والأغرى بالاكتساب. غير القرآن كان تعليم العربية والتفسير وغيرهما متاحا في الجوامع، وحلقات العلماء، لقد كان هؤلاء العلماء يعرفون أن المعرفة والثقافة ستهيئهم لكي يصبحوا نخبة؛ لأن الثقافة هي أحد عناصر الوعي الجماعي الذي يؤسس الطبقة المهيمنة، واكتسابها ينمي حظوظا مقبولة (نفسه، ص95). بفضل تعلمهم، وموسوعيتهم الهائلة، هيمن هؤلاء الثلاثة على تفسير وشرح الغامض والنادر والغريب، وعلى خلاف ما قدمنا من أن أباعبيدة لم يقابل أي خليفة، تذكر بعض المصادر أن الخليفة هارون الرشيد استقدمه من البصرة لكي يقرأ عليه كتبه (ابن خلكان، سابق ج (235/5) وأن الأصمعي يفسر كل شيء حتى مزح الرشيد مع امرأته (نفسه، ج (173/3)، أما الغريب والنادر فقد ترك لأبي زيد (نفسه، ج379/2). الحديث ذو شجون، وما أردته من هذا الاستطراد هو أن أبين كيف أن المحيط الاجتماعي والثقافي ولد هؤلاء العلماء ووجههم، وهم يعبرون عن محيطهم الذي شكل لديهم تصور العالم. لقد كانت الممارسة الشائعة في تكوينهم هي الحفظ. ربما من المبالغ فيه، أن يقال عن الأصمعي أنه حفظ أربعة عشر ألف أرجوزة، أو أن يقول هو عن نفسه انه يحفظ ستة عشر ألفا (الزبيدي، سابق، ص171) وأن يحفظ أبو عبيدة جل الشعر الجاهلي وملحه (ابن خلكان، ج (236/2)، لكن هذا يدل على ما اشتهروا به من أنهم حفظوا ما لن يستطيع أن يحفظه أحد. من المعروف أن الحفظ معرفة خارجة عن الانسان يتلقاها كالوعاء، صحيح ان المحفوظ قد يكون له دور في تحصيل المعرفة الجديدة، لكن في غالب الأحيان يندمج بشكل تعسفي في البنية المعرفية للشخص من غير أن يتفاعل مع ما هو موجود لديه فعلا. إن أي شيء نحفظه لا يؤدي أبدا إلى معرفة حقيقية، إنما يظل معلومة سطحية، من الممكن أن نعيد ما نحفظه، لكننا في الوقت نفسه ربما لم نفهمه، كما أننا لا نستطيع أن نعرفه في المضمون الأكثر تعقيدا لكلمة (يعرف). ان الحفظ لايناسب تماما عملية بناء المعرفة الجديدة، لكنه مفيد في حالة رغبتنا في تعلم ما يعتقد بأنه حقيقة في نظر شخص ما (باير، الاستقصاء، ص36). قد يكون غربيا لبعض القراء العلاقة المباشرة بين الحفظ، وتصور طبيعة المعنى، واذا ما أخذنا الأصمعي نموذجا، فإن درجة فهمه للأراجيز التي حفظها مرتبطة ارتباطا وثيقا بالكيفية لتي تعلمها بها أي أن فهم الأراجيز لا ينجم عن مجرد حفظها، ومعناها ليس شيئا يمكن أن يستعيره من أحد، وإنما يتم من قبل الأصمعي نفسه، وما لم يفعل ذلك، فسوف يفتقر الى الرؤى التي يتكون في ضوئها المعنى الحقيقي، فالمعنى من حيث هو فهم يبنى على يد الأصمعي، وليس غيره. هناك موقف واحد للأصمعي يكشف اثر حفظه في تصوره لطبيعة المعنى، الموقف يتعلق بمعنى آيات القرآن الكريم، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان شديد الاحتراز في تفسير الكتاب والسنة، فإذا سئل عن شيء منهما يقول: العرب تقول معنى هذا هكذا، ولا أعلم المراد منه في الكتاب والسنة (ابن خلكان، سابق، ج (172/3). يفصح هذا الموقف عن عمليتين عقليتين مختلفتين تماما هما: المعرفة وتكوين المعنى. ان المعرفة عامة ومشتركة، وكثيرون غير الأصمعي يعرفون أن العرب تقول معنى هذا كذا، أما تكوين المعنى فهو عملية شخصية وخاصة، إنه تكوين وبناء يتوصل اليه الفرد نفسه، ووراء موقف الاصمعي المتلبس بتدين يجعله يحترز (يتوقى) من البحث عن معاني الآيات والأحاديث (تفسير) ـ أقول وراء هذا الموقف قلق في ربط مفاهيم جديدة، بمفاهيم ذات صلة يعرفها عن العرب. لأنه كذلك فقد أخذ على أبي عبيدة قوله في القرآن برأيه، والحكاية التالية تؤكد تصوره لطبيعة المعنى بلغ أبا عبيدة أن الأصمعي يعيب عليه كتاب (المجاز) فقال: يتكلم في كتاب الله برأيه؛ فسأل عن مجلس الأصمعي في أي يوم هو، فركب حماره في ذلك اليوم ومر بحلقته، فنزل عن حماره وسلم عليه، وجلس عنده وحادثه ثم قال له: أبا سعيد، ما تقول في الخبز، أي شيء هو؟ فقال: هو الذي نخبزه ونأكله، فقال أبو عبيدة: فقد فسرت كتاب الله برأيك، فإن الله تعالى قال (إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا) فقال الأصمعي: هذا شيء بان لي فقلته، ولم أفسره برأيي، فقال أبو عبيدة: والذي تعيب علينا كله شيء بان لنا فقلناه ولم نفسر برأينا (ابن خلكان، سابق، ج5/237). لم يقدم الأصمعي عن الخبز أكثر من المعلومات التي حفظها، ومن ثم فهو لا يعرف شيا عن الذي حفظه. ان المعنى الجديد للخبز في الآية (لم يكن خبزا حقيقيا في كل الأحوال) يصبح معرفتنا عن معنى الخبز الذي حفظناه، ذلك ان المعنى لايقتصر على ما نحفظ، بل على ما نبني ونكون، وهنا قاعدة معنى مهمة هي: أننا نخرج معنى مما نقرأ أو نسمع بمقدار ما ندخل فيه.