عندما أبلغ الرئيس الأمريكي جورج بوش خطأ بنبأ موت الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في الرابع من نوفمبر الحالي قال "الله يرحمه". ومثل هذا الرد الذي جاء خلال مؤتمر صحفي للرئيس الأمريكي غير معتاد في حالة وفاة القادة السياسيين،والمفارقة أن عرفات كان في وقت من الأوقات بطلا للسلام في واشنطن وتراهن عليه الإدارة الأمريكية لتحقيق آمالها في منطقة الشرق الأوسط، وفي وقت آخر كان عرفات بالنسبة لواشنطن الشخص المسئول عن دوامة العنف والدم في المنطقة وعن فشل محاولات تحقيق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
علاقة معقدة
ولعل أبرز اللحظات في تاريخ العلاقة المعقدة بين واشنطن والرئيس الفلسطيني الراحل عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية كانت عام 1993 عندما وضع الرئيس الأمريكي بيل كلينتون يده على كتف عرفات باعتباره رمزا للقومية الفلسطينية،وقبل هذه اللحظة بدقائق صافح عرفات رئيس الوزراء الإسرائيلي في ذلك الوقت اسحق رابين عند توقيع اتفاقات أوسلو للسلام، وكان الرئيس الفلسطيني مات بعد تدهور سريع في حالته الصحية خلال الأيام الماضية بعد سنوات من التدهور البطيء، فقد أمضى الرجل سنواته الاخيرة تحت الحصار الإسرائيلي في مقر رئاسته بالمقاطعة في رام الله بالضفة الغربية حيث اتهمه رئيس الوزراء الإسرائيلي اليميني آرييل شارون بالمسئولية عن موجة الهجمات المسلحة التي شنها الفلسطينيون ضد أهداف إسرائيلية منذ انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الثانية في سبتمبر عام 2000، كما حمل حلفاء شارون في إدارة الرئيس الامريكي جورج بوش الرئيس الفلسطيني مسئولية الفشل في وقف العنف.
واتفق هؤلاء الحلفاء مع وجهة النظر الاسرائيلية بأن رئيس السلطة الفلسطينية ليس شريكا يعتمد عليه في السلام،وكان بوش قد طالب فور توليه الرئاسة عام 2001 بتولي قيادة فلسطينية بديلة وأوقف كل الاتصالات المباشرة مع الرئيس الفلسطيني ليعود بالسياسة الامريكية تجاه عرفات إلى مرحلة ما قبل اتفاقات أوسلو للسلام، ورغم ذلك فإن مراقبين مطلعين ومسئولين أمريكيين تحدثوا بكثير من التفصيل عن محادثات سرية وتعاون بين الولايات المتحدة ومنظمة التحرير الفلسطينية بقيادة عرفات،وكانت أول محاولة أمريكية للتعامل مع عرفات قد حدثت عام 1969 في بيروت عندما أجرت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي.آي.إيه) اتصالا غير مباشر مع أبو حسن سلامة أحد مساعدي عرفات ولكن هذه الاتصالات توقفت بعد عام عندما حاول العميل الأمريكي تجنيد أبو حسن كجاسوس للمخابرا ت الأمريكية، وتجسدت العلاقة الغامضة بين عرفات والولايات المتحدة عندما زار عرفات الا راضي الأمريكية لاول مرة عام 1974 لالقاء خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة وهو يحمل في يد بندقية وفي الأخرى غصن الزيتون،وذكرت صحيفة واشنطن بوست الامريكية عام 1988 أنه خلال تلك الزيارة التقى أحد كبار مساعدي عرفات سرا مع عميل لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية في والدورف أستوريا بهدف التوصل إلى اتفاق لوقف أي هجمات تستهدف مواطنين أمريكيين. وكان عرفات يأمل في اعتراف الولايات المتحدة بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وهو ما حدث بعد ذلك بثلاث سنوات في مبادرة كامب ديفيد للسلام بين مصر وإسرائيل،وقد ظلت أمريكا تتعامل مع عرفات بشكل سري في بيروت حيث كانت حركة فتح التي يقودها عرفات تحمي السفارة الامريكية والامريكيين في لبنان خلال سنوات الحرب الاهلية اللبنانية،وكان عرفات يؤكد أنه لعب دورا رئيسيا في تحرير 13 رهينة أمريكية في طهران عام 1979. وفي عام 1981 تمكن أنصار عرفات من منع هجمات ضد سفارتي أمريكا في كينشاسا وروما.
قمة السلطة وفي العام التالي نجح رجال عرفات في وقف اختطاف الملحق العسكري الأمريكي في لبنان،ولكن فترة الثمانينات شهدت صعود الجمهوريين الذين ينتمي إليهم الرئيس جور ج بوش إلى قمة السلطة في واشنطن بعد نجاح رونالد ريجان في الوصول إلى البيت الابيض فتدهورت العلاقات بين أمريكا وعرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية حيث أصدر الكونجرس الامريكي قرارا اتهم فيه منظمة التحرير بتهديد المصالح الامريكية وقتل عدد من المواطنين الامريكيين، ورفضت وزارة الخارجية الامريكية منح عرفات تأشيرة دخول الاراضي الامريكية لالقاء خطاب أمام الجمعية العامة للامم المتحدة مما اضطر المنظمة الدولية إلى نقل جلساتها إلى مقرها الاوروبي في جنيف بسويسرا من أجل تمكين عرفات من إلقاء خطابه، وعندما أعلن عرفات نبذ الارهاب واعترف بحق إسرائيل في الوجود اعترفت إدارة الرئيس الامريكي رونالد ريجان بمنظمة التحرير الفلسطينية، وشهدت العلاقة بين عرفات وواشنطن طفرة هائلة في عهد الرئيس الامريكي الديمقراطي السابق بيل كلينتون الذي رأى في عرفات زعيما يمكن التوصل معه إلى تسوية دائمة للصراع الفلسطيني الاسرائيلي، وأصبح عرفات طوال سنوات كلينتون الثماني في الحكم ضيفا دائما على البيت الابيض، كما زار كلينتون قطاع غزة، وفي أيام كلينتون الاخيرة استضاف عرفات ورئيس الوزراء الاسرائيلي إيهود باراك في منتجع كامب ديفيد الرئاسي من أجل التوصل إلى اتفاق نهائي. وبعد مفاوضات ماراثونية استمرت 17 يوما فشل الجانبان ومعهما الوسيط الامريكي في التوصل إلى اتفاق، وجاءت الانتفاضة الفلسطينية الثانية وعودة الجمهوريين برئاسة جورج بوش البيت الابيض مرة أخرى لتدخل العلاقة بين واشنطن وعرفات النفق المظلم مرة أخرى. فسرعان ما أعلن بوش أن عرفات ليس شريكا للسلام مقابل شارون "رجل السلام".
وغادر عرفات الدنيا قبل أن تخرج علاقته مع واشنطن "الجمهوري" من النفق المظلم.