لا تفاجئنا كثيرا رسالة الرئيس بوش في خطابه الاخير، انما الذي يفاجئنا ويدهشنا حقا هو محاولة البعض البحث عن "إيجابيات" فيه. وهو ما وضعنا امام مفارقة تضاعف من الدهشة، خلاصتها ان قارئ الصحف العربي التبس عليه امر الخطاب، في حين أن حقيقته كانت اكثر وضوحا في الصحافة الغربية والاسرائيلية. ان شئت فقل ان صحافتنا تعاملت معه بخليط من الحذر والحياء والمجاملة، بينما تخلت الصحف الغربية والاسرائيلية عن كل ذلك، فكانت النتيجة ان تستر عليه بعض اصحاب المصلحة الحقيقية في فضحه، وفضحه من هو اولى بالمجاملة والتستر عليه.
(1)
خذ مثلا ما نشرته صحيفة "الجارديان" البريطانية قبل أيام قليلة "في 27/6"، وقالت فيه صراحة ان خطاب الرئيس بوش خيالي وغير واقعي من بدايته الى نهايته، ولا تكاد تكون له أي علاقة بالواقع في الشرق الأوسط، أما خطته التي طرحها في الخطاب فمحكوم عليها بالفشل، وتدعم دعاة الحرب لا السلام، الأمر الذي أثار دهشة الدبلوماسيين في انحاء العالم وألقت بهم في خضم الكآبة واليأس.
وبعد ان عرضت الصحيفة للمطالب والشروط التي وجهها بوش الى الفلسطينيين، لكي تكتسب بلدهم وضع الدولة مؤقتا، قالت ان هذه المطالب تدعو الى السخرية لانها طالبت فلسطين بان تقيم نموذجا مثل السويد، قبل ان تكتسب صفة الدولة. وهذه الدعوة تصبح نوعا من "الكوميديا السوداء" حين نقف على شقها الذي قال فيه بوش انه ينبغي على الفلسطينيين تعليم اساليب الحكم الجيدة، وترشيحه للدول العربية للقيام بذلك الدور.
لقد ذهب الرئيس الامريكي في جموحه الى حد المطالبة بتنحية الرئيس عرفات من منصبه، وان لم يذكره بالاسم، هكذا قالت الصحيفة، ثم أضافت انه شيء ملفت وربما يكون سلبيا أن نستمع لرئيس امريكي، يعبر عن قناعته بان من حقه اختيار زعماء الدول الأخرى، وهو الذي لا يدرك ان الفلسطينيين غاضبون من رئيسهم ليس لأنه غير موال للولايات المتحدة بقدر كاف، ولكن لانه في نظرهم "معتدل" اكثر من اللازم ولديه استعداد زائد لإرضاء اسرائيل!.
من الخلاصات التي خرجت بها الصحيفة بعد استعراضها لجوانب الخطاب، ان ما قاله الرئيس الامريكي يكشف عن مدى انفصاله التام عن واقع الشرق الأوسط، وذلك لا يثير القلق فحسب، ولكنه شيء خطير ايضا، لان بوش اعطى شارون الضوء الاخضر لمواصلة سياسته القائمة على استخدام القوة العسكرية، المقترنة برفض تجميد بناء المستوطنات في الضفة الغربية. وهي بهذه الصفة تصبح اقرب الى الخيال الجامح الذي يفتقر الى الشعور بالمسئولية، فضلا عن انه محكوم عليها بالفشل. من حيث انها سترفع من درجة المعاناة في الشرق الأوسط، الذي تحتاج شعوبه الى بذل الجهد لتقليل الدمار وإراقة الدماء، لا الى مضاعفتهما.
ختمت الجارديان تعليقها بقولها ان الخطة بالصورة العاجزة التي قدمت بها تضر بالمكانة الدولية للرئيس بوش والولايات المتحدة كما انها لابد وان تثير عدواة وكراهية الشعوب العربية والاسلامية، ولانها تفتح الباب واسعا لارتكاب المزيد من المذابح في الشرق الاوسط، فانها تثير عداوة اسئلة جارحة وغير ودية حول بوش وحربه ضد الارهاب. الامر الذي يعني ان واشنطن تحتاج لان تفيق من غفوة اجماع ما بعد الحادي عشر من سبتمبر، بحيث تدرك انها تعاني مشكلة زعامة تتجسد في شخص جورج بوش!
(2)
الأصداء الناقدة للخطاب في الصحافة الاسرائيلية كثيرة، بحيث لا تنافسها في الكثرة سوى الاصوات المؤيدة له. لكني سأستعرض ثلاثة نصوص من تلك التي فضحت الخطاب وكشفت عوراته، الى جانب الاشادة بما دعا اليه من تطبيع للعلاقات وانهاء مقاطعة الدول العربية لاسرائيل، وفي مطالبة للدول العربي بوقف تمويل "منظمات الارهاب" الفلسطينية واللبنانية.
في نقد الخطاب وكشف مقاصده ومراميه، أثار المعلقون الاسرائيليون الثلاثة نقاطا عدة من اهمها ما يلي:
@ ناحوم برنياع كتب في صحيفة يديعوت احرونوت "عدد 25/6" قائلا: اللسان لسان الرئيس بوش، ولكن اليد التي كتبت الخطاب هي يد ارييل شارون. من ثم فانه يمكن لشارون ان يطالب بحقوق تأليف الخطاب. فهو ما كان ليحلم بخطاب اكثر راحة منه. ومن الناحية السياسية، يبدو ان شارون يمكنه ان يجلس بارتياح، وان يفتح حزامه بخرم اضافي: فمسار بوش لا يطالبه في هذه اللحظة بشيء. فهو يطالب بان تتغير اولا السلطة الفلسطينية وتتجذر فيها قواعد اللعب الديمقراطية، وسلطة القانون والاقتصاد الحر. وبعد ذلك تقوم هناك الدولة الفلسطينية المؤقتة، التي تتفاوض مع اسرائيل على الحدود الآمنة والمعترف بها "هذا الا اذا جاء المسيح قبل ذلك".
صحيح ان الخطاب استمد من ورقة بيريس ـ ابو العلاء فكرة الدولة الفلسطينية المؤقتة، التي يسبق الاعلان عنها تحديد حدودها النهائية، ولكنه يهمل الاطار الزمني الصارم الذي حاولت الورقة اياها اعطاءه للمسيرة. فبدون اطار زمني، فان الحديث يدور في افضل الاحوال عن شيء قد يطير وقد لا يطير. وفي الوضع المشوه في الشرق الاوسط، فانه من شبه المؤكد ألا يطير.
وبتعبير اخر، اذا كانت السنتان الاخيرتان قد قتلتا اتفاق اوسلو، فان خطاب بوش يدفنه في صفحات التاريخ. لقد وعد شارون بجلب الامن والسلام. وفي هذه الاثناء لم يحقق للاسف الشديد ايا من الوعدين، ولكنه حقق وعدا واحدا لم يقطعه: فقد ضم جورج بوش الابن كعضو مؤقت في الليكود. ولم يتبق الان لرجال شارون سوى ان يضموه كعضو في فرع جادة بنسلفينيا!
@ الوف بن كتب في هاآرتس "25/6" كتب قائلا: إن الديبلوماسي الاسرائيلي الاول الذي عقب على الخطاب شرق الاوسطي للرئيس الامريكي جورج بوش كان زعيم المعارضة اليميني النائب ليبرمان الذي وصفه بأنه "إيجابي وبناء في معظمه".
ليس في كل يوم يتلقى الرئيس الامريكي مثل هذا الثناء من رئيس الاتحاد الوطني، ولكن هذه المرة كان هناك سبب وجيه لذلك، لقد تبنى بوش الموقف الاسرائيلي ووضع في مقدمة سياسته الاقليمية الدعوة لاستبدال القيادة الفلسطينية.
لقد تبنى بوش تماما التفسيرات الاسرائيلية للمواجهة، وانتقد السلطة الفلسطينية التي رفضت "اليد الممدودة للسلام" واختارت العنف. وحذر الفلسطينيين من انهم اذا واصلوا الارهاب فان اسرائيل "ستواصل الدفاع عن نفسها وسيزداد وضع الفلسطينيين خطورة وشدة". وبذلك قدم تغطية امريكية لعملية "السور الواقي" التي تجري الآن في مدن الضفة الغربية.
وسجل رئيس الحكومة ارييل شارون لنفسه انتصارا سياسيا.
وفي زيارته الاخيرة الى البيت الابيض نجح في صد الضغوط التي مارسها عليه بوش "صديق العرب" من اجل ان يعلن عن جدول زمني للاتفاق الدائم وان يدعو الى انسحاب اسرائيلي من كل المناطق الى حدود 1967. وهو الاعلان الذي ايدته وزارة الخارجية، بينما عارضته اطراف اخرى، في مقدمتها نائب الرئيس تشيني ووزارة الدفاع "البنتاجون"، الى ان رجحت كفة المعارضة وخابت آمال العرب، ولم يشر بوش الى الانسحاب الى خطوط عام 67، وانما تحدث فقط عن انسحاب الى حدود آمنة ومعترف بها، تماما كما طلب شارون قبل اسبوعين.
لقد ذكر الرئيس بوش انه يمكن احراز اتفاق دائم (بين الفلسطينيين والاسرائيليين خلال ثلاث سنوات)، لكن ذلك الجدول الزمني مجرد أمل، وهو مشروط بتنفيذ اصلاحات من الجانب الفلسطيني. واوضح شارون لبوش انه لن يؤيد الآن الدولة الفلسطينية ولكنه لن يغضب اذا دعا بوش الى اقامة "دولة مؤقتة" بعد اجراء الاصلاحات حيث ان هذا بالضبط هو اقتراح شارون لاتفاق مرحلي طويل المدى. بالمقارنة مع التغيير العميق المطلوب في السلطة الفلسطينية، كي تكون جديرة بالاستقلال، وبالمقابل فان المطالب التي عرضها بوش لاسرائيل محدودة وقليلة. حيث دعاها الى الانسحاب للمواقف التي كانت بها قبل المواجهة، ووقف الاستيطان وفقا "لخطة ميتشل" وازالة الاطواق والافراج عن اموال السلطة المجمدة. وتنفيذ المطالب مشروط بتحسين الوضع الأمني، لم يطلب الرئيس من الطرفين تقديم ردود له، ولم يعرض الخطوات التالية لخطته. لا مؤتمرا دوليا ولا جولة اخرى لوزير الخارجية كولين باول. كل هذه الافكار تبخرت في الطريق الى غرفة النقاشات في البيت الابيض. حتى سورية تلقت ضربة من بوش الذي تبنى موقف شارون وحدد ان عليها التنصل من الارهاب من اجل ان تكون شريكة جديرة للمسيرة السياسية.
لقد امتنع بوش عن كل التزام محدد يعرضه لانتقادات مستقبلية، ومسؤولية التنفيذ القيت على عاتق الشعب الفلسطيني الذي دعي لنبذ الارهاب والتنصل من عرفات والا فانه سيقف وحده مقابل القوة الاسرائيلية.
وفي الوضع الحالي الذي يعمل فيه الجيش بدون تحديد وقت في الضفة يبدو الخطاب كموافقة امريكية ضمنية لاعادة احتلال المناطق.
(3)
@ في 26/6 نشرت صحيفة "هاآرتس" مقالا لجدعون سامتي قال فيه ان الميزة الوحيدة للخطاب غير المجدي الذي ألقاه بوش هي اننا اصحبنا نعرف منذ الآن ـ وبشكل رسمي ـ اين تميل واشنطن في الصراع العربي الاسرائيلي. والدراما التي حدثت على طريق الحسم الرئاسي مثيرة بشكل خاص. ذلك ان الرئيس بوش تجاهل تماما في خطبته رؤية باول المغايرة للصراع، والقى بالمبادرات العربية في سلة المهملات، وتصرف بوحي من مصلحته الخاصة والعليا، وهذه المصلحة تكمن في اجتياز انتخابات التجديد النصفي للكونجرس التي تتم في شهر اكتوبر المقبل، والنجاح في تجديد فترة الرئاسة التي تجري بعد عامين، وهو نجاح يريده هذه المرة خاليا من الاهانة التي تعرض لها في الانتخابات الاولى، وهي المهانة التي كان بإمكان بضعة آلاف من اصوات اليهود في فلوريدا ان تحول دون حدوثها.
ان خطاب بوش حافل بالتفاصيل والاشتراطات التي يمكن تطبيقها، والتي تفتقد لاحتمالات النجاح، وبدا ان هدفها هو الالتفاف حول الصعوبة وليس محاولة حلها. ولذلك بوسعنا القول بانه تصرف بدم بارد، وبدرجة مؤسفة من اللامسئولية تجاه الاحتياجات الحقيقية التي تتطلبها ادارة دفة الصراع. واضرار هذه الرؤية ستظهر عما قريب. ذلك ان بوش عزز من موقف شارون المتشدد وتبناه في واقع الأمر. كما ان اقواله ستعزز من عزم الإرهاب وتصميمه بدلا من اضعافه. وهو في خطابه المح لقادة حماس والجهاد بان الحرب هي الحرب، وعليهم ان يتمسكوا اكثر فاكثر بالديناميت، طالما انه لم يطرح اية رؤية تفتح الطريق للحل.
ان الرئيس الامريكي لم يترك مجالا للتظاهر بالحرص على الاسراع بالحل، ولو على سبيل الادعاء والتظاهر فلم يتحدث عن جدول زمني او عن المؤتمر الاقليمي، ولم يشر حتى الى العبارة التقليدية: سيتوجه وزير خارجيتي الى المنطقة. انه لم يفعل شيئا من ذلك كله، فجاءت رؤيته للحل مجرد كلام فارغ لا يحل ولا يربط.
اختم الاصداء الاسرائيلية بذلك التقرير البرقي الذي نقلته من مدينة القدس يوم 26/6 صحيفة "القدس العربي" وقالت فيه ان اسرائيل قابلت بفرح عارم خطاب الرئيس الامريكي جورج بوش بشأن الشرق الاوسط، وقالت ان بوش يستحق "وسام الصهيونية". واعتبر وزير الاتصالات الاسرائيلي ريوفين ريفلين ان خطاب بوش "كان يمكن ان يكتبه مسئول في الليكود" حزب رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون.
وصرح الوزير المقرب من شارون للاذاعة العسكرية "ان هذا الخطاب للرئيس بوش كان يمكن ان يكتبه مسؤول في الليكود. كان بامكاني انا شخصيا ان القيه امام الكنيست". وشدد معلق الاذاعة العامة وصحيفة "هاآرتس" على ان خطاب بوش يعتبر "انتصارا دبلوماسيا لارييل شارون" الذي تمكن خلال زياراته الست الى واشنطن منذ توليه السلطة الى اقناع بوش بإقصاء الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات. وتجاهل المبادرات العربية.
ونقلت صحيفة "معاريف" ايضا عن وزير اسرائيلي قوله انه يجب "تقليد بوش وسام الصهيونية". واصدر مكتب شارون بيانا وصف معلق الاذاعة الاسرائيلية بانه "حذر" مشيرا الى ان شارون لا يريد "إبداء ارتياحه لعدم احراج الولايات المتحدة لدى البلدان العربية".
(4)
هل انطفأت كل المصابيح في الشرق الاوسط، وانسدت ابواب الامل في حل مشكلته؟
هذا السؤال يلوح في الافق في اللحظة الراهنة وهو نفسه السؤال الذي كان قد طرحه على العقل الاوروبي في عام 1914، السير ادوارد جراي حينما تمكن منه اليأس، وبدا ان اوروبا انفلت فيها العيار، وتدهورت اوضاعها على النحو الذي اشعل نار الحرب العالمية الاولى، التي استمرت حتى العام 1919. آنذاك قال الرجل ان المصابيح بدأت تنطفئ في انحاء اوروبا، وتساءل عما اذا كانت ستكتب له الحياة، كي يراها مشتعلة مرة اخرى.
كأننا نعيش لحظة انطفاء المصابيح هذه. فالموقف الامريكي بائس على النحو الذي رأيت، الاسرائيلي اشد بؤسا. والاوروبيون تسمع منهم كلاما طيبا وتأكيدهم علي الاختلاف مع الموقف الامريكي والتميز عنه، لكنهم يقولون لنا صراحة في نهاية كل حوار انهم لا يستطيعون ان يذهبوا بعيدا عن الموقف الامريكي، ولا يستطيعون ان يختلفوا مع واشنطن في العلن. وهو ما يعني ـ بكلام آخر ـ ان اوروبا في هذا الموضوع بوجه اخص ستظل تابعة للولايات المتحدة.
لم تبق امامنا سوى مصابيح الساحة العربية والإسلامية، فهي وحدها التي نملكها، وحدها خط دفاعنا الاول في الحالة المثلى، وهو خط دفاعنا الاخير في ظل الخرائط الراهنة، لا مجال الآن للعتاب وانتقاد الذين راهنوا على الامريكيين والاوروبيين او من يسمون بقوى الاعتدال والسلام في اسرائيل. رغم ان ذلك درس يجب ألا ينسى، وانما الأمل يظل معقودا على جهود الحفاظ على المصابيح مضاءة في الساحتين العربية والإسلامية، ان لم يكن كلها، فأغلبها عند الحد الادنى، وهذه المصابيح تتمثل في استمرار المقاومة على الارض الفلسطينية، وفي محاولات بناء موقف وطني ديمقراطي على المستوى القطري، وفي التمسك بالصمود والمقاطعة وتعميق الروابط على المستوى القومي، وفي تنشيط فعالية العمق الاسلامي. ثمة اجتهادات كثيرة في هذا الصدد، لكن اهم ما يعنينا في الامر هو استمرار الحفاظ على مصابيحنا العربية والإسلامية مضاءة، مع توجيه الرجاء الى الذين يعجزون عن اضاءة مصابيحهم الا يطفئوا المصابيح الاخرى المجاورة لهم، والا يعطلوا سعي الاخرين لانارة مصابيحهم اذا ما حاولوا ذلك. ان غاية مرادنا الان لا ان تضاء كل مصابيح المنطقة ـ فلسطينيا وعربيا واسلاميا ـ ولكن الا تنطفئ ونحن على قيد الحياة كل المصابيح، وتعيش المنطقة في ظلام دامس.