إعادة جدولة الديون الخارجية تحقق للدائن والمدين فوائد اقتصادية، فهي تضمن للدائن الحصول على أمواله يوما ما، وفي الوقت نفسه تعطي للمدين فترة تأجيل تتيح له إعادة ترتيب أوضاعه الاقتصادية والتجارية.
لكن رغم ذلك فإن هذه العملية لا تخلو من شروط قاسية تؤثر في الحياة الاقتصادية والاجتماعية للدول المدينة. نتيجة العجز المزمن في الميزانيات العامة والموازين التجارية خاصة في الدول العربية غير النفطية، انخفضت القيمة التعادلية للعملات الوطنية وارتفع معدل الضغط الضريبي واتبعت سياسات تقشفية في شتى الميادين فتضررت جميع الفئات الاجتماعية، وهبط مستوى معيشة حوالي 160 مليون عربي ينتمون إلى دول تطبق برامج الإصلاح الاقتصادي المفروضة من قبل صندوق النقد الدولي. كانت الأقطار العربية تستدين بسبب حاجتها إلى الأموال فأصبحت أكثر فقرا بسبب ثقل ديونها، وبات من المستحيل سداد أصل وفوائد الديون الخارجية في المواعيد المحددة.
تأجيل سداد الديون
وبهدف إعطاء نفس جديد لمالية الدول المدينة يقرر الدائنون منحها آجالا إضافية، ويطلق على هذه العملية اسم "إعادة جدولة الديون الخارجية" التي تقدم مكاسب لطرفي المعادلة. وتتحقق مكاسب الدائنين بحصولهم لاحقا على أموالهم بدلا من التوقف النهائي للدولة المدينة عن الدفع، في حين تتمثل مكاسب الدول المدينة باستغلال فترة التأجيل لترتيب أوضاعها المالية والتجارية، إذ عليها معالجة العجز المالي الذي يسبب اللجوء إلى التمويل الخارجي وتنمية صادراتها للحصول على الموارد المالية اللازمة لسداد ديونها المؤجلة.
بيد أن هذه العملية تخضع لشروط قاسية تؤثر بشدة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، كما أنها لا تتصدى لأزمة المديونية بل تؤجلها إلى وقت لاحق. لذلك تطالب البلدان النامية بإلغاء بعض التزاماتها المالية، لكن الإلغاء بالطريقة المتبعة حاليا لا يكفي لمعالجة الأزمة ناهيك عن ارتباطه بعوامل سياسية بحتة.
هبوط مؤشر الديون العربية
هبط مؤشر حجم الديون وخدمتها في أغلب البلدان العربية. ولم يتمخض هذا الهبوط عن جهود داخلية ترتبط بالنمو الاقتصادي وتحسن الصادرات بقدر ما نجم عن امتيازات ممنوحة من قبل الدائنين قادت إلى تأجيل سداد أقساط وفوائد جزء من الديون وإلغاء جزء آخر منها. ورغم هذا الهبوط يسجل المؤشران نسبا عالية مقارنة بالكثير من البلدان النامية. وهذا يعني أن المديونية الخارجية العربية لا تزال تشكل أزمة حقيقية على الصعيدين المالي والاقتصادي.
في عام 2000م بلغ حجم الديون الخارجية، مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي أكثر من 50 بالمائة في تونس والمغرب واليمن، وأكثر من 100 بالمائة في السودان وسوريا وموريتانيا. ووصلت خدمة الديون قياسا بالصادرات إلى أكثر من 30 بالمائة في الأردن وتونس والمغرب، وإلى ضعف هذه النسبة في لبنان. ودفعت الدول العربية غير الخليجية 13758 مليون دولار لسداد ديونها، أي أكثر من 1.5 مليون دولار في الساعة. وفيما يلي نتعرض بالبحث لعناصر كيفية إعادة الجدولة - أنماط إعادة الجدولة - شروط إعادة الجدولة - خطورة إعادة الجدولة - إلغاء الديون الخارجية
كيفية إعادة الجدولة
نجمت المديونية الخارجية العربية عن قروض عقدت خاصة مع الدول الأعضاء في نادي باريس الذي يضم 19 دولة صناعية، تتمتع بالعضوية الدائمة في النادي، ويمكن للدول الدائنة الأخرى حضور اجتماعاته شريطة موافقة الأعضاء الدائمين والبلد المدين.(لا يقبل نادي باريس إعادة جدولة ديون مستحقة لصندوق النقد والبنك الدوليين) يختص نادي باريس بالنظر في الديون الرسمية والديون المضمونة رسميا، ولا ينظر في الديون القصيرة الأجل (أقل من سنة واحدة). أما الالتزامات الناجمة عن قروض ممنوحة من قبل صندوق النقد الدولي والبنك العالمي فلا تقبل إطلاقا إعادة الجدولة. وعلى الدولة المدينة سداد الديون المترتبة على هذه القروض في التواريخ المحددة مسبقا وإلا تردت علاقاتها مع المؤسستين الدوليتين، وعندئذ يتعذر على نادي باريس إعادة جدولة ديونها، وهذا ما حدث للسودان عندما عجز عن دفع ديونه المستحقة لصندوق النقد الدولي فتراكمت متأخرات السداد، وإثر ذلك جمدت حقوق البلد في الحصول على تسهيلات جديدة، ولم يبت بإعادة برمجة ديونه منذ عام 1984م. بعد أن يقدم البلد المدين طلبا بإعادة جدولة ديونه تتولى سكرتارية نادي باريس جمع المعلومات عن الحالة الاقتصادية لهذا البلد من سلطاته العامة ومن الدول والمؤسسات الدائنة. وتحتوي المعلومات على تحليل دقيق للوضع الاقتصادي والمالي وحجم الديون الخارجية وتقسيماتها حسب مصادرها وتواريخ استحقاقها، كما تتأكد السكرتارية من تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي المتفق عليه مع صندوق النقد الدولي، ثم يوجه رئيس النادي (مدير الخزينة الفرنسية) دعوة إلى ممثلي الدول الدائنة وممثل الدولة المدينة لحضور الاجتماعات التي يشارك فيها صندوق النقد الدولي والبنك العالمي بصفة مراقب. وبعد مفاوضات لا تستغرق أكثر من ثلاثة أيام يتخذ الدائنون قرارهم بتوافق آرائهم، أي عدم معارضة أحد على ما تم التوصل إليه بينهم. ويتضمن هذا القرار الذي يعرض على ممثل الدولة المدينة للموافقة عليه تفاصيل إعادة جدولة الديون، لكن هذا الاتفاق هو في الواقع توصية تدعو حكومات الدول الدائنة إلى عقد اتفاقات ثنائية مع حكومة البلد المدين.
أنماط إعادة الجدولة
تستند إعادة الجدولة على مبدأ كل حالة على حدة، والاتفاق الخاص بدولة معينة لا يسري على دولة أخرى حتى إن تشابهت أحوالهما التجارية والمالية. والقرار المتخذ بشأن دين معين لا يسري على دين آخر لنفس الدولة، أضف إلى ذلك أن الدول العربية تختلف اختلافا كبيرا فيما بينها، من حيث ثقل مديونيتها وأوضاعها الاقتصادية، كما لا يستخدم نادي باريس طريقة موحدة لإعادة الجدولة. وانطلاقا من هذه الاعتبارات بات من اللازم دراسة أنماط إعادة الجدولة المطبقة على البلدان العربية.
البنود التقليدية
لا توجد قواعد ثابتة في هذا النمط، فالأمر متروك للدائنين، قد يقررون تأجيل الدين لمدة 15 سنة مع فترة سماح كما هو حال الاتفاق السابق الذكر مع الجزائر، وقد تكون المدة أقصر كما هو حال أول اتفاق عقد مع المغرب عام 1983 (9 سنوات دون فترة سماح). وطبق هذا النمط على الدول النامية المدينة بما فيها الدول العربية منذ إنشاء نادي باريس وحتى النصف الأول من عام 1990م، فجميع الاتفاقات مع السودان (1979، 1982، 1983 و1984م)، و4 اتفاقات مع المغرب (1983، 1985، 1987 و1988م)، واتفاق واحد مع الصومال (1985)، تمت بموجب البنود التقليدية. بينت الدراسات والتقارير أن هذه البنود غير ملائمة لمديونية البلدان الفقيرة، بدليل ارتفاع خدمة ديونها ارتفاعا كبيرا في فترة قصيرة. وحسب صندوق النقد الدولي انتقلت خدمة ديونها من 17 بالمائة من الصادرات عام 1980م إلى 30 بالمائة منها عام 1986م. ولأسباب لا مجال لتفصيلها قرر مؤتمر قمة الدول السبع الكبرى المنعقد بتورنتو عام 1988م مبادئ جديدة لإعادة جدولة ديون تلك البلدان، عندئذ ظهرت أنماط أخرى وأصبحت البنود التقليدية تسري حاليا على الدول المدينة غير الفقيرة وفق تصنيفات البنك العالمي، وخضعت ديون الجزائر عام 1994 وعام 1995م لهذه البنود.
بنود هيوستن
الديون العادية تعاد جدولتها لمدة 15 سنة أو أكثر مع فترة سماح لمدة سنتين أو أكثر، وتحتسب الفوائد الجديدة حسب أسعار السوق. والمساعدات الرسمية للتنمية تعاد جدولتها لمدة 20 سنة مع فترة سماح لمدة 10 سنوات. ويجب ألا تزيد أسعار الفائدة الجديدة على أسعار الفائدة الأصلية.
يشترط لتطبيق هذه البنود ألا يزيد الدخل الفردي في الدولة المدينة على 2995 دولارا، ويتعين أن تكون مديونيتها مرتفعة، وجرت العادة في نادي باريس على اعتبار المديونية مرتفعة إن انطبق عليها معياران من معايير ثلاثة هي أن حجم المديونية يفوق 50 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي. حجم المديونية يزيد على 275 بالمائة من الصادرات. وخدمة الديون تفوق 30 بالمائة من الصادرات.
وتتضمن هذه البنود إمكانية تبديل الديون شريطة موافقة الدول الدائنة. ويمكن تبديل 20 بالمائة من الديون العادية، في حين لا توجد نسبة محددة لتبديل المساعدات الرسمية للتنمية. ويتبدل الدين بعدة وسائل أهمها حصول الدولة الدائنة على سلع من الدولة المدينة مقابل قيمة الدين، كما يمكن تبديل عملة السداد من قابلة للتحويل إلى محلية.
وفي أغلب الحالات تتنازل الدولة الدائنة عن حقوقها لصالح مستثمرين، ويقوم المستثمرون بمقايضة الدين مع الدولة المدينة بأسهم في شركات محلية أو بمبالغ نقدية بالعملة المحلية للبلد المدين تستخدم لإقامة مشاريع فيه. حتى الربع الأول من عام 2002م تمت معاملة 16 دولة وفق هذه البنود، والأردن في طليعة البلدان العربية التي طبقت عليها بنود هيوستن، وتعتمد المالية الداخلية والخارجية لهذا البلد اعتمادا كبيرا على الإيرادات الخارجية نظرا لضعف الموارد الذاتية، وتتخذ هذه الإيرادات شكلين أساسيين. أولهما المساعدات الإنمائية بما فيها المنح المجانية المقررة من قبل بلدان الخليج والدول الغربية. ثم تحويلات العمال الأردنيين المقيمين في الخارج.
بنود نابولي
تلغى الديون العادية بنسبة 67 بالمائة كحد أقصى، وتعاد جدولة النسبة المتبقية لمدة 23 سنة مع فترة سماح لمدة 6 سنوات بأسعار الفائدة السائدة في السوق. وإعادة جدولة المساعدات الرسمية للتنمية لمدة 40 سنة مع فترة سماح لمدة 16 سنة، ولا تزيد أسعار الفائدة الجديدة على أسعار الفائدة الأصلية كما يشترط ألا يزيد الدخل الفردي للبلد المدين على 755 دولارا، وتسري بنود هيوستن على إمكانية تبديل الدين.
بنود كولونيا
الديون العادية تلغى بنسبة 90 بالمائة فأكثر، وتعاد جدولة النسبة المتبقية حسب بنود نابولي. والمساعدات الرسمية للتنمية تعامل كما وردت في بنود نابولي. كما يمكن تبديل الدين حسب بنود هيوستن، ويشترط أن تستجيب الدولة المدينة للشروط الواردة في بنود نابولي، كما يتعين أن يعتبرها صندوق النقد الدولي والبنك العالمي من الدول الأكثر فقرا ذات المديونية المرتفعة. وقد وضعت هاتان المؤسستان الدوليتان قائمة بالبلدان المؤهلة للاستفادة من بنود كولونيا وعددها 41 دولة من بينها 4 بلدان عربية سنذكرها لاحقا.
شروط إعادة الجدولة
لا يوافق نادي باريس على إعادة الجدولة إلا إذا استفحل العجز في ميزان مدفوعات الدولة المدينة أو ازدادت متأخرات ديونها، فهو يشترط إذن وجود حالة عسر شديد تعرقل الوفاء بالالتزامات المالية. وتبرم الاتفاقات بعد تطبيق البرنامج الإصلاحي الذي يقترحه صندوق النقد الدولي على الدولة المدينة، ويرمي هذا البرنامج إلى توازن الميزانية العامة والميزان التجاري لأن ضبط العجز المالي يحد من التضخم ومعالجة العجز التجاري تقود إلى تقليل الاعتماد على التمويل الخارجي. ولتحقيق ذلك يتناول البرنامج جميع أدوات السياسة المالية والاقتصادية المتعلقة بمواضيع التجارة الخارجية والعملة المحلية، والنفقات العامة بمختلف صورها وكذلك الضرائب المباشرة وغير المباشرة وقوانين الاستثمارات.
مشكلة التطبيق
لا شك أن هذه الأهداف ضرورية في جميع الحالات، إذ لا بد من سياسة مالية وتجارية سليمة حتى في حالة غياب أزمة المديونية الخارجية. لكن المشكلة تتعلق بأساليب تحقيقها، فقد أثبتت تجارب البلدان العربية التي لجأت إلى إعادة جدولة ديونها أن برامج الإصلاح الاقتصادي قادت إلى نتائج اجتماعية واقتصادية سيئة، فمن أجل معالجة العجز المالي تنصل القطاع العام من دوره في إحداث فرص جديدة للعمل رغم استفحال البطالة وتقلص الدعم الحكومي للسلع الاستهلاكية الضرورية للمعيشة وازدادت الضرائب المباشرة وغير المباشرة. ومن الزاوية التجارية اعتمدت الإصلاحات بموجب تلك البرامج على تخفيض قيمة العملة الوطنية.
ويرى صندوق النقد الدولي أن التخفيض يقود إلى تشجيع الاستثمارات الأجنبية وتحويلات العمال المغتربين، وكذلك إلى معالجة عجز الميزان التجاري وبالتالي إلى تقليص التمويل الخارجي فتخف أزمة المديونية.
أما الدول المعنية فترى أن هذه العملية النقدية تمس أصحاب الدخول المنخفضة وتحدث ردود فعل داخلية قد تكون عنيفة، كما أنها غير فاعلة في تحسين الأوضاع التجارية. فعلى سبيل المثال طلب صندوق النقد الدولي من الحكومة الجزائرية عام 1992م (قبل إعادة الجدولة بسنتين) تخفيض قيمة الدينار بنسبة 50 بالمائة. رفضت الحكومة في ذلك الحين هذا الطلب إذ لم تجد حكمة من تخفيض القيمة التعادلية للدينار، لأن الصادرات تقتصر على النفط والغاز الطبيعي، أي على مواد يجري تسعيرها في السوق العالمية بالدولار لا بالدينار. لكن الخلافات بين صندوق النقد الدولي والدول المدينة تنتهي بترجيح وجهات نظر الصندوق حتى وإن كانت غير سليمة، لأن نادي باريس لا ينظر أساسا في طلبات إعادة الجدولة إلا بعد موافقة صندوق النقد الدولي، ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فلا بد من الاستمرار ببرامج الإصلاح قبل وطيلة فترة الاتفاق على إعادة الجدولة، ففي المغرب مثلا البرامج مطبقة منذ 20 سنة.
د. صباح نعوش أكاديمي عربي بباريس