وقد تسعى إحدى الجامعات الى أن يكون لديها برامج دراسات عليا «كثيرة»، وتفتح أبواب القبول في تلك البرامج، دون أن يكون لديها هيئة تدريسية مؤهلة وكافية، إلا أن دافع الإنجاز غيب الاهتمام بجودة هذه البرامج لأن الإنجاز هو الأهم.
ثقافة الإنجاز -في رأيي- الأولى أن تستبدل بثقافة الإتقان، فليس لدي تحفظ أن يكون في المدينة أكبر حديقة في العالم، ولكن كان الأجدر أن يكون الدافع من تشييد هذه الحديقة هو تشييد حديقة جميلة بمواصفات عالية بحيث تجعل الناظر إليها يُسر، ومن يرتادها يجد فيها الراحة والاستجمام ويستمتع بهذا الإنجاز المتقن في كل جوانبه، وإن صدف وكانت الحديقة الأكبر من نوعها في العالم فلا بأس.
معلوم أن فكرة إتقان العمل أولى من إنجازه، لكن ما أطرحه هنا هو جعل الإتقان هو الأصل، والإنجاز فرع منه، وبهذا الفهم يمكننا أن نسعى إلى إنجاز أي شيء ولكن بشرط أن يكون متقنا ولو كان ذلك على حساب المساحة أو الحجم، فالأولى في رأيي أن يكون لدينا «إنجاز متقن» بدل أن يكون لدينا «إنجاز» كيفما اتفق، هذه الثقافة لو انتشرت بيننا وأصبح التنافس بيننا على الإتقان أكثر منه على الإنجاز لتغيرت الكثير من الأمور، ويمكنك أن تنظر حولك وحتما ستجد أن ما حولك كان بالإمكان أن يكون أفضل لو أنه كان متقنا، ولو تأملت فيما حولك لوجدت أن عدم الإتقان لم يكن سببه عدم القدرة المادية أو لعدم وجود الإمكانات الاخرى، وإنما لأن الإتقان لم يكن في الحسبان وإنما كان متروكا للصدف.
لقد تعمدت في هذا المقال أن أبتعد عن ذكر بعض الدول التي يعتبر فيها إتقان العمل ثقافة سائدة بين الناس ليقيني أن أمثلة تلك الدول حاضرة في ذهن القارئ، كما أني تعمدت عدم ذكر بعض نماذج إتقان العمل في بلادنا لأنها معروفة للقارئ أيضا، ولكني سأتعمد تذكير القارئ بحالة الإعجاب التي تنتابه حينما يرى عملا متقنا في بلادنا، كما أذكر القارئ الكريم بحالة الإحباط التي تصيبه حينما يرى كل إنجاز غير متقن، إحباط يجبرك أن تسأل: لماذا لم يتقن عمل هذا الإنجاز كما أتقن الآخر؟ ببساطة لأن الإتقان ترك للصدف على حساب الإنجاز.
[email protected]