وهناك منطق سائد آخر في سوق العمل، بأن أصحاب التخصصات من العلوم الإنسانية لا يستوعبهم سوق العمل، فما الوظيفة التي يمكن لسوق العمل أن يسندها لمختص في التاريخ أو الأدب، أو الفلسفة والنقد، غير الوظائف التعليمية؟ وفي واقع الحال إذا كنا نتحدث من وجهة نظر رجل الأعمال فالمنطق صحيح، ولكن حتى ولو توقفت الجامعات عن تخريج طلاب في تخصصات انسانية مثل المذكورة آنفا وركزت على مجالات العلوم والطب والهندسة وعلوم الحاسب سنصل الى مرحلة يكتفي فيها سوق العمل من هؤلاء ويصبح حاملو تلك التخصصات عاطلين عن العمل لأن سوق العمل غير قادر على استيعابهم، وبالتالي ستطالب الجامعات بعدم تخريج طلاب لا يمكن لسوق العمل أن يستوعبهم.
بهذا تحول الموضوع الى معضلة، المتسبب الرئيس فيها هي الجامعات، لانها هي تارة من تغرق سوق العمل بسيل من الخريجين الذين لا يمكن لسوق العمل أن يستوعبهم، وهي من يجب عليها تخريج الطلاب المتمكنين بما يتوافق مع سوق العمل تارة أخرى.
هذا التوجه الذي يتمحور حول حاجات سوق العمل - لو تم تبنيه - يعني أننا سنوجد نظاما تعليميا جامعيا خادما لحاجات سوق العمل الذي في النهاية يديره مجموعة من رجال الأعمال او المديرين التنفيذيين. ولا أعتقد أن اي نظام تعليمي جامعي تديره عقليات تجارية سيكون واسع الافق، لانه بكل بساطة سيكون مفصلا ومحدودا بما يتناسب وحاجات سوق العمل، لا تدفعه المعرفة لذات المعرفة ولا تدفعه الرغبة في معرفة المزيد والاضافة النوعية لحياة البشر وغيرها من المبادئ الأكاديمية والعلمية السامية.
الجامعات ليست مسؤولة عن سوق العمل في رأيي، ولكن هناك الكثير ممن يتبنون فكرة عدم التعارض أو عدم الخلاف بين الجامعات وسوق العمل، فهم دعاة مسك العصا من المنتصف، وفي رأيي أن في توجههم تمييعًا للقضية وقبولًا لأنصاف الحلول. فقبل أن تتسارع الجامعات بضم مجموعة من رجال الأعمال الى مجالس امنائها «لأنهم الأعرف بسوق العمل وأحواله» الى آخر الديباجة المملة، أردت التنويه بأن هذه المعلومة ليست دقيقة في كل الاحوال، أما البعض المغرم بنظام جامعته في بلد الابتعاث والذي له علاقة وطيدة بسوق العمل، أذكره بأن أنظمة التعليم الجامعي في البلدان الغربية قد تدهورت تدهورا كثيرا في العقدين الماضيين ومن أهم أسباب هذا التدهور تقديم العنصر الربحي والتجاري والارتباط بسوق العمل بدلا من الاهتمام بالعنصر المعرفي والإبداعي.