هذا السور العرمرم، الذي يغري صانعه بالجلوس فيه، لا يمكن الخروج منه إلا بورود البئر المهجورة، التي هي (الشك). نعم.. إن الشك موجود داخلنا، ولكن أكثرنا لا يعرف أنه هو المعول الذي تدفن به الجثث الميتة من الأفكار. غير أن هذا المعول المضمر لا ينقاد بسرعة، فهو فى حاجة، حتى يسل من غمده، إلى طاقة عاصفة من الإرادة، لأن الأفكار، حتى لو كانت جثثا، تدافع عنها العادة بشراسة ضارية؛ ذلك لأن الكسل، الذي يسميه الإنسان (راحة) يجره إليه، ويغريه بالنوم (في سرير الظلام بهدوء)، وهل هناك ظلام كالجهل؟ ليس هذا وحسب، بل هو؛ أي الشك، يحتاج الى طاقة أخرى: هي طاقة المعرفة النامية دائما. ولا أذكر الفيلسوف الذي قال: (الثقافة هي تجاوز النفس باستمرار) أما الطاقة الثالثة فهي الأشد ضراوة؛ لأنها تجابه الآخرين، في عاداتهم وأفكارهم الراسخة. وهذه طاقة لا يستطيعها إلا سقراط وأمثاله الذين لا يبالون بالانتحار.
لقد ذكر الجاحظ مواقف عدة يشيد فيها أصحابها بالشك. خاصة في كتابه (الحيوان) وهي مواقف نظرية. أما هو فقد مارس الشك نظريا وعمليا، حتى أن أكثر دارسيه رجموه باللامبدأ، لأنه يؤيد الضدين معا.
إن ما قاله مؤيدو الشك قد اختصره أحد العلماء بقوله: «من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال». ولكنه نفسه لم يجن ثمرة من هذا الشك، فهو قد خرج من ظلام إلى آخر أشد، ولكن اصحابه يرونه ضياء. أما الفيلسوف ديكارت، فقد ناقش شكه بعض من يرى أن فى اعتقاده بأفكار ثابتة يولد بها الإنسان ما يناقض هذا الشك.