السؤال ليس جديدًا، بل تم طرحه وإن بصيغ أخرى من قبيل: لماذا تأخر المسلمون وتقدم الغرب؟ وقد تعددت إجابات هذا السؤال وتنوعت كل حسب ثقافة هذا المفكر أو ذاك أجاب عنه رفاعة الطهطاوي كما أجاب عنه محمد عبده، حيث كانت معظم الإجابات تلتقي عند عوامل تتعلق إما بالقوة العسكرية أو بالتنظيم السياسي والقانوني أو باحترام الإنسان في معتقده وحريته الشخصية أو بعوامل تتعلق بالاستبداد كما عند الكواكبي إلى الكثير من العوامل الأخرى التي نوقشت واشبعت بحثًا وتفصيلًا. لكن ما يخص السؤال بالصيغة التي طرحناها في المقال، فإن الجدة هنا تتعلق بالمرجعيات وهي تتصل أساسًا بهموم معرفية بالدرجة الأولى، أي أن البحث عن منهجية مناسبة لقضايا عصرنا هو الغائب عن تلك الإجابات، وعلى الرغم من كثرة الباحثين الذين وجدوا ضالتهم في التركيز على مثل هذا البحث في الوقت الراهن، وهناك أسماء عديدة لا يسع المجال لذكرها هنا، إلا أنها لم تلتفت إلى وصول اجتهاداتها في المنهجية مع الأسباب التي أدت إلى إخفاق الإصلاحية العربية في القرن التاسع عشر. هناك بعض الباحثين ألمحوا إلماحًا إلى هذا الجانب، أهمها هو افتقاد الإصلاحية العربية المنهج الفيلولوجي الذي كان متوافرًا عند الباحثين الغربيين. وأهمية هذا المنهج كبيرة. لكن في مقال آخر.
من المفارقات الكبرى التي ارتبطت بالفكر الإصلاحي العربي في عصر النهضة مقارنة بالفكر الإصلاحي في أوروبا، إخفاق الأول في بناء منظومة من المرجعيات التراثية تكون بمثابة القاعدة التي يبني فوقها عملية اصلاحه الفكري والسياسي والثقافي والاقتصادي، رغم ما يمتاز به التاريخ الإسلامي من وضوح في المرجعيات واتفاق عامة المسلمين عليها -إلا اختلافات طفيفة لا تنزل منزلة القطيعة كما في أوروبا- منذ نزول الوحي بالقرآن الكريم على الرسول، ومنذ تأسيس العلوم الإسلامية من أصول فقه، وعلم الكلام، والتفاسير والحديث والسيرة وعلم البيان في القرون الثلاثة الهجرية الأولى. أما ما يقابل هذا الإخفاق فهو نجاح حركة الإصلاح الأوروبي بداية من عصر النهضة مرورًا بعصر الأنوار إلى الثقافة المعاصرة رغم ما شاب هذه الحركة منذ أوائلها في القرن السادس عشر الميلادي من عدم وضوح في المرجعيات، حيث كان الصراع حول هذه الأخيرة على أشده بين ثلاث فئات: الأولى كانت تنتصر للتراث اليوناني من هوميروس إلى أرسطو، بينما الثانية كانت تنتصر للتراث الروماني في الفنون والقانون والحرب وتعلي من شأنها، بينما ثمة فئة أخرى تنتصر للتراث الإسلامي المتمثل خصوصا في تراث ابن رشد وعقلانيته الفلسفية. وإذ ظل هذا الصراع يتجاذب هذه الأطراف، ويؤثر فيها من العمق من خلال مسيرتها الإصلاحية بشكل عام، إلا أن التداخل بينها من حيث التأثير والتأثر أو لنقل امتزاج الواحدة بالأخرى هو في نهاية المطاف ما صنع مرجعية أوروبية تحتوي جميع مرجعيات هذه الأطراف في وحدة واحدة وكأنها كتلة واحدة لم تكن يومًا من الأيام عاشت الصراع فيما بينها بهذه الحدة أو القساوة التي عرفتها أوروبا.
لذلك يتساءل المرء هنا: لماذا لم يتسن للإصلاحية العربية أن تتجاوز اخفاقاتها رغم ما توافر لديها من وضوح في المرجعيات بينما توافرت عوامل النجاح للإصلاحية الأوروبية رغم ما شاب مرجعياتها من صراع وعدم وضوح؟