العمل هنا ليس الوظيفة التي تتقاضى عليها أجرا تستهلكه لتدبير أمور حياتك، أو تدخره عملا لقول القائل (احفظ قرشك الأبيض ليومك الأسود). لكن المقصود العمل هنا هو ما تقدمه في دنياك لآخرتك ابتغاء مرضاة ربك، ومما يحكى في التراث العربي أن لتاجر أربع نساء كان يحبهن بدرجات متفاوتة، وكانت الحظوة الكبيرة للأولى أما الثانية فأقل، وكذلك الثالثة أقل من الثانية، أما الرابعة فقد أهملها إهمالا كبيرا، لدرجة أنها لم تنل منه أي اهتمام، ولما وافاه الأجل المحتوم طلب من زوجاته الأربع على التوالي مرافقته إلى قبره، فأبين بشدة واستغراب، باستثناء الرابعة التي أهملها، فقد أصرت على مرافقته إلى القبر، والعبرة أن لكل منا أربع زوجات، الأولى هي ملذات الدنيا التي نحبها حبا جما، والثانية هي المال الذي نقبل عليه بشغف لأنه يوفر لنا ملذات الدنيا، والثالثة هم الأقارب الذين نحبهم بدرجة أكبر، لكن لا أحد منهم يمكن أن يرافقنا في رحلة الموت، أما الرابعة التي نهمل العناية بها والتي سترافقنا إلى القبر، فهي أعمالنا بخيرها وشرها، بحسنها وسيئها.
من اخترع قصة الزوجات الأربع رجل واسع الخيال، أراد أن ينصحنا فأصاب الهدف عندما أوصانا بالعمل الصالح، الذي يهمله بعضنا في زحمة الحياة، ومشاغل الدنيا التي لا تنتهي، مع أن هذا العمل رفيقنا الأبدي بوجهه الحسن، إن كان خيرا، ووجهه القبيح إن كان شرا، وهذا العمل يرتبط بالإنسان ارتباط الروح بالجسد، وهو في النهاية الباقي، ليذكر الناس بنا، وهم يقولون عن المرء: (والنعم) إن أحسن، أو يقولون عنه: (والخيبة) إن أساء، فالعمل ما ظهر منه وما بطن، هو جواز السفر إلى قلوب الناس إن كان صالحا، وهو أيضا جواز نفي من قلوب الناس إن كان سيئا.
والمؤسف أن بعض الناس لا تحلو لهم الحياة إلا بالسوء، غفر الله لنا ولهم، وكأن إيذاء الناس هواية لديهم، يشكو منهم القريب قبل البعيد، وهذا دليل غضب الله عليهم، لأن هذا السلوك يتعارض مع طبيعة الإنسان المجبول على الخير، لكن عوامل كثيرة تدفعه للانفلات من طبيعته الإنسانية لينغمس في الغفلة، حتى وإن انهالت عليه صرخات التحذير من كل جانب، لأن هواه قد سد أذنيه عن معرفة الحق، فانجرف إلى الباطل وعلى رؤوس الأشهاد، ذلك الحق الذي يرفض الاقتناع به، وهو أن العمل الصالح.. هو الذي يقربه من قلوب الناس، والأهم أنه يقربه من ربه سبحانه وتعالى، فرضا الناس ليس دوما دليلا على حسن العمل، في زمن أصبحت فيه المصالح الذاتية مقدمة على المصلحة العامة.. زمن أصبحت فيه المنفعة هي الحكم في العلاقات بين الناس، وما الناس إلا أعداء أنفسهم، فكيف لا يكونون أعداء غيرهم.. العلاقة مع الله هي المكسب الحقيقي لمن يريد ثواب الدنيا والآخرة.
ومما ينسب للإمام علي بهذا المعنى قوله رضي الله عنه:
الناس تبكِي على الدنيا وقد علِمت
أن السلامة فيها تركُ ما فِيها
لا دار للمرءِ بعد الموتِ يسكُنُها
إلا التي كان قبل الموتِ بانِيها
فإِن بناها بِخيرٍ طاب مسكنُها
وإن بناها بِشرٍ خاب بانِيها
لِكُلٍ نفسٍ وإن كانت على عجلٍ
مِن المنِيةِ آمال تُقوِيها
عملك هو رفيقك الدائم، وما عليك إلا أن تحسن اختيار الرفيق، اللهم احسن خواتيم أعمالنا، وانفعنا بما علمتنا.