بيد أن هذا لا ينقل لنا الصورة الكاملة للفكرة الأمريكية نفسها، ولا يمكن الحكم عليها بعدالة، من خلال النظر إلى وجه واحد.
شخصيا أرى أن العالم مدين للفكرة الأمريكية نفسها، التي ثبتت وصمدت في وجه التغيرات، وحركة التاريخ، لأكثر من قرن. فكرة الدولة القائمة على الحرية، وحقوق الأفراد، وقيم السوق الحر، وإتاحة المجال للمنافسة العادلة. إنها البلد التي لا تهتم بماضيك، بل تنشغل بصنع مستقبلك، أو على الأقل إتاحة أسباب النجاح لك، دون تعقيد. صحافة حرّة، وحقوق خصوصية فردية مقدّسة، وحرية بحث، وإنتاج، واكتشاف، دون قيود.
لا يمكنك أن تصف أمريكا بشيء سوى أنها رافعة الأحلام في العالم، والدليل الحي على أن هذا النموذج، الذي تقوم عليه، هو النموذج الأصلح لفكرة الدولة نفسها. وطن شديد الحيوية للحد الذي قالت فيه ميج جرينفيلد في كتابها الشهير واشنطن: «لن تكون سمات الحياة في واشنطن هي ذلك الهيكل الاجتماعي للمدرسة الثانوية البطيء أو المتوقف عن التطور على نحو غير طبيعي».
قضيت الشهرين الماضيين في رحلة فكرية وبحثية تدور حول العالم الأمريكي، عبر عدة كتب ودورات إلكترونية، إحداها كانت بتنظيم من جامعة هارفارد، وأشرف عليها البروفيسور الشهير في كلية كينيدي توم باتيرسون. كانت رحلة في عمل ديمقراطية عظيمة، وحضارة فكرية سادت على الكون منذ قرن، ولا تزال. كان منظر السيد باتيرسون وهو يتجول بنا افتراضيا بين جدران البيت الأبيض، وأمام أعمدة الرخام البيضاء للمحكمة العليا، وحول حمى الكونجرس، أمرا محفزا، ومثيرا للانتباه، وأنت تتأمل حضارة لا تزال تظلل الأرض بنور علومها، وفتوحاتها المعرفية.
التنمية، والحرية، وحقوق الأفراد، كانت هي الأسلحة التي جعلت من أمريكا دولة عظمى. كان روبرت ماكنمارا وزير الدفاع الأمريكي الأسبق، يرى أن التنمية الشاملة هي أهم خطوات تعزيز الأمن الوطني لأي دولة، ذلك أن السلاح جزء من الأمن، وليس الأمن كله، وأن الأسلحة مهما كان حجمها، وقوتها، فإنها لا تمنع الثورات الناجمة عن سوء إدارة الدولة لمواردها.
مسيرة أمريكا وتطورها أمر مثير للإعجاب، خصوصا حين تقرأ كيف كانت مجرد رقعة جغرافية على ضفة العالم، مسجونة بالمحيط الأزرق الكبير، ثم تحولت إلى وعد لكل الحالمين في العالم، وموئل تحقيق الأحلام دون قيود.